فنقول: قد استشكل في المقام على اختياريّة الأفعال الصادرة من المكلَّفين:
بأنّ الفعل الاختياري هو ما كان مسبوقاً بالإرادة و الاختيار، فننقل الكلام إلى هذه الإرادة و الاختيار، فيقال: إنّها لا يمكن أن تكون بالاختيار؛ للزوم كونها مسبوقةً بإرادة اخرى، و ننقل الكلام إليها .. و هكذا، فإمّا أن تتسلسل، و هو محال، أو تنتهي إلى إرادة أزليّة، فيلزم الجبر، و حينئذٍ فلا تصحّ العقوبة على الفعل الصادر من المكلَّف [1].
أقول: قبل الخوض في إقامة البرهان على اختياريّة الأفعال لا بدّ من الرجوع إلى الوجدان و حكم العقل و العقلاء في المقام، ثمّ إقامة البرهان عليه فنقول لا ريب في أنّ موضوع صحّة العقوبة عند العقل و العقلاء في جميع الأعصار و الأمصار هو صدور الفعل عن المكلَّف بالإرادة و الاختيار، لا بالإكراه و الاضطرار، مثل حركة يد المرتعش بدون الالتفات و التوجّه إلى نفس الإرادة و مباديها؛ و أنّها بالاختيار أولا.
و بالجملة: موضوع صحّة العقوبة هو صدور الفعل بالاختيار فقط، لا اختياريّته مع مباديه، و إلّا فلو فرض أنّه كذلك فلا بدّ أن يقع بجميع مباديه بالاختيار، و لا وجه للتفصيل- حينئذٍ- بين المبادي؛ و أنّ المعتبر صدور الفعل مع بعض مباديه بالاختيار دون البعض الآخر منها، و من المبادي وجود الفاعل، بل وجود الأفلاك، بل وجود الباري تعالى الموجد لكلّ شيءٍ، فكما أنّ الخطور و التصديق بالفائدة من مبادي الفعل، كذلك هذه المذكورات، و لا ريب في أنّها خارجة عن تحت اختيار المكلَّف، و لا يمكن الالتزام بأنّ موضوعها هو اختياريّة الفعل مع جميع مباديه، و لا وجه للتفكيك بين بعضها و بعضها الآخر، فتعيّن أنّ المعتبر هو صدور الفعل عن إرادة و اختيار؛ أ لا ترى أنّ الإنسان قد يشتاق إلى الفعل غاية الاشتياق و مع ذلك لا يريده، و قد يكرهه غاية الكراهة و مع ذلك يريده، و هذا دليل على أنّ اختياره ليس