الناس.
فلما أكثر من ذلك خرج جرير إلى رجال من قومه فقال: هلّا تعجبون لهذا الرجل الذي
يقضي للفرزدق عليّ و هو يهجو قومه و أنا أمدحهم! قال جرير: فضربت [1] رأيي فيه. ثم
خرج جرير ذات يوم يمشي و لم يركب دابّته، و قال: و اللّه ما يسرّني أن يعلم [2]
أحد. و كان لراعي الإبل و الفرزدق و جلسائهما حلقة بأعلى المربد بالبصرة يجلسون
فيها. قال: فخرجت أتعرّض له لألقاه من حيال حيث كنت أراه يمرّ إذا انصرف من مجلسه،
و ما يسرّني أن يعلم أحد، حتى إذا هو قد مرّ على بغلة له و ابنه جندل يسير وراءه
على مهر له أحوى [3] محذوف الذّنب و إنسان يمشي معه يسأله عن بعض السّبب، فلما
استقبلته قلت: مرحبا بك يا أبا جندل! و ضربت بشمالي على معرفة بغلته، ثم قلت: يا
أبا جندل! إن قولك يستمع و إنك تفضّل الفرزدق عليّ تفضيلا قبيحا و أنا أمدح قومك و
هو يهجوهم و هو ابن عمي، و يكفيك من ذاك هيّن [4]: إذا ذكرنا أن تقول كلاهما شاعر
كريم، و لا تحتمل مني و لا منه لائمة. قال:
فبينا أنا و هو
كذاك واقفا عليّ. و ما ردّ عليّ بذلك شيئا حتى/ لحق ابنه جندل، فرفع كرمانيّة [5]
معه فضرب بها عجز بغلته ثم قال: لا أراك واقفا على كلب من بني كليب كأنك تخشى منه
شرّا أو ترجو منه خيرا! و ضرب البغلة ضربة، فرمحتني [6] رمحة وقعت منها قلنسوتي،
فو اللّه لو يعرّج عليّ الراعي لقلت سفيه غوى- يعني جندلا ابنه- و لكن لا و اللّه
ما عاج عليّ، فأخذت قلنسوتي فمسحتها ثم أعدتها على رأسي ثم قلت:
أ جندل ما تقول بنو نمير
إذا ما الأير في است أبيك غابا
فسمعت الرّاعي
قال لابنه: أما و اللّه لقد طرحت قلنسوته طرحة مشئومة. قال جرير: و لا و اللّه ما
القلنسوة بأغيظ أمره إليّ لو كان عاج عليّ. فانصرف جرير غضبان حتى إذا صلّى العشاء
بمنزله في علّيّة [7] له قال: ارفعوا إليّ باطية من نبيذ و أسرجوا لي، فأسرجوا له و
أتوه بباطية من نبيذ. قال: فجعل يهمهم [8]؛ فسمعت صوته عجوز في الدار فاطّلعت في
الدّرجة/ حتى نظرت إليه، فإذا هو يحبو على الفراش عريانا لما هو فيه، فانحدرت
فقالت: ضيفكم مجنون! رأيت منه كذا و كذا! فقالوا لها: اذهبي لطيّتك، نحن أعلم به و
بما يمارس. فما زال كذلك حتى كان السّحر، ثم إذا هو يكبّر قد قالها ثمانين بيتا في
بني نمير. فلما ختمها بقوله:
فغضّ الطّرف إنّك من نمير
فلا كعبا بلغت و لا كلابا
كبّر ثم قال:
أخزيته و ربّ الكعبة. ثم أصبح، حتى إذا عرف أن الناس قد جلسوا في مجالسهم بالمربد،
و كان يعرف
فحل
من شعراء الإسلام، و كان مقدّما مفضلا حتى اعترض بين جرير و الفرزدق. (انظر ترجمته
في «الأغاني» ج 20 ص 168 طبع بلاق).
[5] كذا في
الأصول و «الأغاني» (ج 20 ص 169 طبع بلاق) في ترجمة الراعي. و ظاهر أنها ضرب من
السياط. و قد جاءت هذه القصة في «النقائض» (ص 431) و فيها: «فأقبل يشتد به فرسه
حتى يهوى بالسوط لمؤخر بغلة أبيه .. إلخ».
[6] في
«النقائض»: «فزحمتني و اللّه زحمة وقعت منها على كفى في الأرض».