الصدر متبرّما بالناس، فكان يقول: اللهمّ إني [1] قد تبرّمت بنفسي و
بالناس جميعا، اللهم فأرحني منهم. و كان إخوته يستعيرون ثيابه فيوسّخونها و ينتنون
ريحها، فاتخذ قميصا له جيبان و حلف ألّا يعيرهم ثوبا من ثيابه، فكانوا يأخذونها
بغير إذنه؛ فإذا دعا بثوبه فلبسه فأنكر رائحته فيقول [2] إذا وجد رائحة كريهة من
ثوبه: «أينما أتوجّه ألق سعدا» [3]. فإذا أعياه الأمر خرج إلى الناس في تلك الثياب
على نتنها و وسخها، فيقال له: ما هذا يا أبا معاذ؟
فيقول: هذه
ثمرة صلة الرّحم. قال: و كان يقول الشّعر و هو صغير، فإذا هجا قوما جاءوا إلى أبيه
فشكوه فيضربه ضربا شديدا، فكانت أمّه تقول: كم تضرب هذا الصبيّ الضرير، أ ما
ترحمه! فيقول: بلى و اللّه إني لأرحمه و لكنه يتعرّض للناس فيشكونه إليّ؛ فسمعه
بشّار فطمع فيه فقال له: يا أبت إنّ هذا الذي يشكونه منّي إليك هو قول الشعر، و
إني إن ألممت عليه أغنيتك و سائر أهلي، فإن شكوني إليك فقل لهم: أ ليس اللّه يقول: (لَيْسَ
عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ)*[4]. فلما عاودوه شكواه قال لهم برد ما قاله
بشّار؛ فانصرفوا و هم يقولون: فقه برد أغيظ لنا من شعر بشّار.
أعطاه فتى
مائتي دينار لشعره في مطاولة النساء:
أخبرني الحسن
بن عليّ قال حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني محمد بن عثمان الكريزيّ
قال حدّثني بعض الشعراء قال:
/ أتيت بشّارا
الأعمى و بين يديه مائتا دينار [5]، فقال لي: خذ منها ما شئت، أو تدري ما سببها؟
قلت: لا؛ قال: جاءني فتى فقال لي: أنت بشّار؟ فقلت: نعم؛ فقال: إني آليت أن أدفع
إليك مائتي دينار و ذلك أني عشقت امرأة فجئت إليها فكلّمتها فلم تلتفت إليّ، فهممت
أن أتركها فذكرت قولك:
لا يؤيسنّك من مخبّأة
قول تغلّظه و إن جرحا
عسر النّساء إلى مياسرة
و الصّعب يمكن بعد ما جمحا
/ فعدت إليها فلازمتها حتى بلغت منها حاجتي.
عاب الأخفش
شعره ثم صار بعد ذلك يستشهد به لما بلغه أنه همّ بهجوه:
[1]
كذا في ح و في باقي الأصول: «إني كنت قد تبرمت».
[2] كذا
بالأصول و اقتران جواب الشرط الصالح للشرطيّة بالفاء خلاف الأصل (انظر «شرح
الأشموني» ج 3 ص 60 طبع بولاق).
[3] هذا مثل
يضرب لمن يلقى سوء المعاشرة في كلّ مكان، و أصله أن الأشموني بن قريع كان سيّد
قومه فرأى منهم جفوة فرحل عنهم إلى آخرين فرآهم يصنعون بساداتهم مثل ذلك فقال هذا
القول.