ضربا من الاستكمال , فكذلك لها أيضا فى أن تدرك الأشياء ادراكا جزئيا بصريا أو
نحوه أن تستغنى عن هذه الأعضاء و انفعالاتها . و بالجملة أن الابصار يتحقق بدون
الالة و انفعالها , و بدون انفعال النفس ايضا لكونها فاعلة للصور المبصرة لا
قابلة اياها .
فاذا ثبت ذلك من أن النفس المجردة عن عالم الطبيعة تدرك الصور الجزئية
المبصرة ببصرها الخاص الذى هو عين ذاتها , علم أن مطلق الابصار عن عوارض
الموجود بما هو موجود . و لا يوجب تجسما و لا انفعالا و تغيرا و هو كمال و فقدانه
نقص فالواجب - جل ذكره - أولى بذلك الكمال .
و كذا الكلام فى السمع فان الذى اشتهر بين الناس أن السمع إنما يحصل بقرع او
قلع عنيفين و لا بد فيه من تموج الهواء الواصل الى عضو غضروفى فى باطنه عصب
مفروش يؤثر فيه وصول الهواء المتموج فتنفعل منه النفس فتنتبه بالاصوات و
الحروف و الكلمات و يدركها , ليس كما قرروه و اثبتوه و خالفهم فى ذلك طائفة
من اكابر الحكماء .
و مما ينبه أن مطلق السمع لا يفتقر فيه الى آلة طبيعية او حركة هوائية , أن
الانسان ربما يسمع فى حالة النوم صوتا شديدا كصوت الرعد و نحوه و يؤثر فيه
تأثيرا عظيما ليس بأقل من تأثير صوت الواقع فى الخارج و حالة النوم حالة
اتصال النفس بعالم آخر]( .
اقول : هذه جملة من كلماته المنيفة فى أن ادراك النفس فى المحسوسات انما هو
من انشاء النفس باذن الله - سبحانه - . و كذلك الأمر فى الصور الخيالية كلها
من انشائها فهى فعلها القائم بها و محسوساتها فى الحقيقة معقولاتها فضلا عن
متخيلاتها . و أما ادراكها الحقائق العقلية فقد تقدم الكلام فيه فى العين الثامنة
و العشرين , و جملة الأمر أنه بفناء النفس فى العقل و سيجى ء البحث عنه ايضا .
و من هذه الاشارات تذعن أن العلم حضورى مطلقا , و أنه نور للنفس و عينها , و
أنه جوهر , بل وجود نورى كان فوق المقولة .
و لنذكر بعض عبارات علماء القوم على ممشى المشاء مزيدة للتبصر :
قال الشيخ فى اول اولى كتاب نفس الشفاء فى معانى النفس([ : [1] إن
النفس
يصح أن يقال لها بالقياس الى ما يصدر عنها من الافعال قوة . و كذلك يجوز أن
يقال لها بالقياس الى ما يقبلها من الصور المحسوسة و المعقولة على معنى آخر قوة
. الخ]( .
اقول المراد من القوة الاولى هو مبدأ التغير فى الغير . و المراد من الثانية هو
الانفعال .