كما و أنها اختارت الزمان المناسب أيضا ليكون المسجد غاصّا بالناس على اختلاف طبقاتهم من المهاجرين و الأنصار، و لم تخرج وحدها إلى المسجد، بل خرجت في جماعة من النساء و كأنها في مسيرة نسائية، و قبل ذلك تقرّر اختيار موضع من المسجد لجلوس بضعة رسول اللّه و حبيبته، و علّقوا سترا لتجلس السيدة فاطمة (عليها السلام) خلف الستر، إذ هي فخر المخدرات و سيدة المحجّبات.
كانت هذه النقاط مهمة جدا.
و استعدّ أبو بكر لاستماع احتجاج سيدة نساء العالمين و ابنة أفصح من نطق بالضاد و أعلم امرأة في العالم كله.
خطبت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) خطبة ارتجالية منظّمة منسقة بعيدة عن الاضطراب في الكلام، و منزّهة عن المغالطة و المراوغة و التهريج و التشنيع، بل و عن كل ما لا يلائم عظمتها و شخصيتها الفذّة و مكانتها السامية.
و تعتبر هذه الخطبة معجزة خالدة للسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، و آية باهرة تدلّ على جانب عظيم من الثقافة الدينية التي كانت تتمتّع بها هذه الصديقة.
و أما الفصاحة و البلاغة، و حلاوة البيان، و عذوبة المنطق، و قوة الحجة، و متانة الدليل، و تنسيق الكلام، و إيراد أنواع الاستعارة بالكناية، و علو المستوى، و التركيز على الهدف، و تنوّع البحث، فالقلم وحده لا يستطيع استيعاب الوصف، بل لا بدّ من الاستعانة بذهن القارئ.
كانت السيدة فاطمة (عليها السلام) مسلّحة بسلاح الحجة الواضحة و البرهان القاطع و الدليل القوي المقنع، و كان المسلمون الحاضرون في المسجد ينتظرون كلامها و يتلهّفون إلى نتيجة الحوار و الاحتجاج الذي لم يسبق له مثيل إلى ذلك اليوم.
جلست السيدة في المكان المعدّ لها خلف الستر، و لعل دخولها يومذاك كان لأول مرة بعد وفاة أبيها الرسول الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله).