مخالفة أمر المولى دليل على كون الأمر حقيقة في الوجوب، إذ لا يتوجه الذم و العقوبة بالمؤاخذة إلا على ترك الواجب، و لذا توجيه التوبيخ على إبليس بسبب تركه لما أمر به من السجود لآدم حينما قال تعالى للملائكة: اسْجُدُوا لِآدَمَ. إلا أن هذا الدليل لا يثبت بذلك إلا ظهور الأمر في الوجوب من دون أن يثبت بالوضع أي: من دون أن يثبت أن الأمر وضع للوجوب. هذا لا دليل عليه. إذا: كل الأدلة المطروحة من الآية الشريفة و الأحاديث إنما تدل على الوجوب لظهور الأمر فيها، و الظهور العرفي حجة ببناء العقلاء، و هو كاف في ثبوت الوجوب من دون حاجة إلى إثبات الوضع له [1].
قال السيد محمود الهاشمي في تقريراته للسيد الشهيد (قدس سره): نحن في غنى عن مثل هذه الاستدلالات فإنه مما اتفق عليه المحققون: دلالة مادة الأمر على الوجوب بحكم التبادر، و بناء العرف و العقلاء على كون الطلب الصادر من المولى بمادة الأمر وجوبا، و لم يستشكل فقيه في استفادة الوجوب من لفظ أمر ورد في لسان الشارع عند عدم القرينة على الاستحباب.
و إنما الذي وقع فيه البحث هو: كيفية تفسير هذه الدلالة و تحديد منشأها. و قد اختلفوا في ذلك على أقوال ثلاثة:
1- أن تكون الدلالة على أساس الوضع للوجوب.
2- أن تكون بحكم العقل.
3- أن تكون بالإطلاق و مقدمات الحكمة.
و قد ذهب المشهور إلى القول الأول، و ذهبت مدرسة المحقق النائيني (قدس سره) إلى القول الثاني، و ذهب المحقق العراقي إلى القول الثالث. و هذه الأقوال و الاحتمالات الثلاثة واردة في صيغة الأمر أيضا على حد واحد، لأن دلالتها على الوجوب كدلالة مادته مفروغ عنها بحكم التبادر و الوجدان العقلاني، و إنما البحث في تفسيرها و ملاكها. و نحن هنا نبحث عن تفسير دلالة الأمر على الوجوب بلحاظ المادة و الهيئة معا. فنقول:
أما القول الأول: فدليله التبادر مع إبطال سائر المناشئ الأخرى المدعاة لتفسير هذا التبادر، بمعنى: عدم إمكان الجزم يكون بالوضع هو السبب لتبادر الوجوب إلا بعد إبطال القولين الأخيرين (أي: القول الثاني و الثالث). إذا: التبادر دليل على منشأ التبادر هو الوضع، و هذا لا يكون إلا بعد إبطال القول الثاني و الثالث [2].
القول الثاني: فقد ذكر المحقق الميرزا النائيني في إثباته: إن الوجوب ليس مدلولا للدليل اللفظي و إنما مدلولة الطلب فحسب، و كل طلب يصدر من العالي إلى الداني و لا يقترن بالترخيص في المخالفة يحكم العقل بلزوم امتثاله و إطاعته و بهذا اللحاظ ينتزع عنوان الوجوب منه.
و بعبارة أخرى: إنّ الأمر بمعنى الطلب موضوع لمطلق الطلب، و خصوصية الوجوب و كذا الاستحباب
[1] المصادر: 1- منتهى الدراية في شرح الكفاية، ج 1، ص 372- 375.