و المرء لم يغضب لمطلب أنفه # أو عرسه لكريهة لم يغضب
و مطلب أنفه: فرج أمّه؛ لأنّ الولد إذا تمّت أيّامه في الرّحم، قلا[2]مكانه و كرهه، و ضاق به موضعه، فطلب بأنفه موضع المخرج ممّا هو فيه من الكرب، حتّى يصير أنفه و رأسه على فم الرّحم، تلقاء فم المخرج. فالأناء[3]و المكان يرفعانه في تلك الجهة، و الولد يلتمس تلك الجهة بأنفه، و لو لا أنّه يطلب الهواء من ذاته، و يكره مكانه من ذاته، ثمّ خرج إلى عالم آخر خلاف عالمه الذي ربّي فيه، لمات؛ كما يموت السّمك إذا فارقه الماء. و لكنّ الماء لمّا كان قابلا لطباع السمك غاذيا لها، و السّمك مريدا له، كان في مفارقته له عطبه. و كان في مفارقة الولد لجوف البطن و اغتذائه فضلات الدّم، ما لا ينقص شيئا من طباعه و طباع المكان الذي كان له مرّة مسكنا. فلذلك قال الشّاعر الجاهلي[4]: [من الكامل]
و المرء لم يغضب لمطلب أنفه # أو عرسه لكريهة لم يغضب
يقول: متى لم يحم فرج أمّه و امرأته، فليس ممّن يغضب من شيء يؤول إليه.
1210-[قول المتكلّمين في صمم الأخرس]
و زعم المتكلّمون أنّ الأخرس أصمّ، و أنّه لم يؤت من العجز عن المنطق لشيء في لسانه، و لكنّه إنّما أتي في ذلك؛ لأنّه حين لم يسمع صوتا قطّ، مؤلّفا أو غير مؤلّف، لم يعرف كيفيّته فيقصد إليه. و أنّ جميع الصّمّ ليس فيهم مصمت[5]، و إنما يتفاوتون في الشّدّة و اللّين؛ فبعضهم يسمع الهدّة و الصّاعقة، و نهيق الحمار إذا كان قريبا منه، و الرّعد الشّديد، لا يسمع غير ذلك. و منهم من يسمع السّرار، و إذا رفعت له الصّوت لم يسمع. و متى كلّمته و قرّت الشّكاية في أذنه، فهم عنك كلّ الفهم. و إن [1]البيت بلا نسبة في اللسان و التاج (أنف) ، و التهذيب 1/68.
[2]قلا: كره و أبغض.
[3]الأناء: آن الشيء: حان.
[4]تقدم البيت في بداية هذه الفقرة.
[5]مصمت: تام الصمم.
نام کتاب : الحيوان نویسنده : الجاحظ جلد : 4 صفحه : 457