الثانیة أکثر، إلا أنه قد یقع الالتفات إلی هذا العالم و تنظیم أموره بالعرض. و
أما فی الأموات فیختص بما یتعلق بالنفس فقط لاستغنائهم عن الأمور البدنیة،
فتختص السعادة فیهم بالملکات الفاضلة، و العلوم الحقة الیقینیة، و الوصول
إلی مشاهدة جمال الأبد، و معاینة جلال السرمد. و قالوا إن الأولی لشوبها
بالزخارف الحسیة، و الکدورات الطبیعیة ناقصة کدرة، و أما الثانیة فلخلوها
عنها تامة صافیة، لأن المتصف بها یکون أبدا مستنیرا بالأنوار الإلهیة،
مستضیئا بالأضواء العقلیة، مستهترا [1] بذکر اللّه و أنسه مستغرقا فی بحر
عظمته و قدسه، و لیس له التفات إلی ما سوی ذلک، و لا یتصور له تحسر علی فقد
لذة أو محبوب، و لا شوق إلی طلب شیء مرغوب، و لا رغبة إلی أمر من الأمور،
و لا رهبة من وقوع محذور، بل یکون منصرفا بجزئه العقلی مقصورا همه علی
الأمور الإلهیة من دون التفات إلی غیرها. و هذا القول ترجیح لطریقة
المعلم الأول من حیث إثبات سعادة للبدن و لطریقة الأقدمین من حیث نفی حصول
السعادة العظمی للنفس ما دامت متعلقة بالبدن. و هو (الحق المختار) عندنا،
إذ لا ریب فی کون ما هو وصلة إلی السعادة المطلقة سعادة إضافیة. و معلوم أن
غرض القائل بکون متعلقات الأبدان کالصحة و المال و الأعوان سعادة أنها
سعادة إذا جعلت آلة لتحصیل السعادة الحقیقیة لا مطلقا، إذ لا یقول عاقل إن
الصحة الجسمیة و الحطام الدنیوی سعادة، و لو جعلت وسیلة إلی اکتساب سخط
اللّه و عقابه و حاجبة عن الوصول إلی دار کرامته و ثوابه. و کذا لا ریب فی
أن النفس ما دامت متعلقة بالبدن مقیدة فی سجن الطبیعة لا یحصل لها العقل
الفعلی، و لا تنکشف لها الحقائق کما هی علیه انکشافا تاما، و لا تصل إلی
حقیقة(1) مستهترا به علی بناء اسم المفعول أی مولع به.