فإنّ الصحابة لم
ينقرضوا حتّى حدث في عصرهم من التابعين مجتهدون ، وهم لم ينقرضوا حتّى لحقهم من
تابعيهم آخرون ، وهلمّ جرّا ، فيجوز مخالفة كلّ طبقة من اللاحقين لطبقة سابقة عليه
؛ لعدم انقراضها ، وحينئذ لا ينعقد إجماع ؛ لأنّه يتوقّف على انقراض عصر كلّ من
يجوز له المخالفة ، وهو محال عادة.
والقول بأنّه لا
مدخليّة للاّحقين ؛ لأنّ المجمعين هم الأوّلون الموجودون عند حدوث الواقعة ،
فالشرط انقراض عصرهم فقط [١] ، فاسد ؛ إذ لا شبهة في جواز مخالفة اللاحقين ؛ لأنّه لم
يسبقهم إجماع يكون حجّة عليهم ؛ لعدم انعقاده بعد ، وهو [٢] لإمكان أن يكون قول المجمعين على الخطأ بوجود معارض ، وهو لا يرتفع بموتهم.
هذا ، واحتجّ
المشترط ـ وهو أحمد بن حنبل وابن فورك ـ : بأنّه يمكن أن يوجد معارض ذهل عنه
المجمعون ، وهم ـ ما داموا أحياء ـ لمّا كانوا مشتغلين بالبحث والنظر في أدلّة
الأحكام ، فربّما عثروا عليه وتغيّر اجتهادهم الأوّل ، فلا يستقرّ الإجماع إلاّ
بعد وفاتهم [٣].
وفيه : أنّ هذا
بعيد ، ولو قدّر لا يعمل به ؛ لأنّ الإجماع قاطع ، ولا يرجع عنه بالاجتهاد. وهذا
كما لو اطّلع عليه بعد الانقراض.
والقول بأنّه
ربّما كان إجماعهم عن ظنّ [٤] ، ثمّ اطّلعوا على القاطع ، أو ظنّ [٥] أقوى منه ، ينتقض بإمكان الاطّلاع عليه بعد الانقراض أيضا.
والحلّ : أنّ
تحقّق اتّفاق عن ظنّيّ مع وجود قاطع على خلافه محال عادة ، ومع وجود ظنّيّ أقوى
منه بعيد جدّا ، مع أنّ الإجماع عند العامّة قاطع وإن حصل عن اجتهاد ودليل ظنّيّ ،
فالحكم المجمع عليه يصير بعد الاتّفاق عليه قطعيّا وإن كان مستنده ظنّيّا ، فلا
يجوز الرجوع عنه بالاجتهاد.
[١] حكاه الآمدي عن
أحمد بن حنبل في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣١٨.