قَالَ:«فَانْقَضَّ إِلَيْهِ اللَّعِينُ،فَوَجَدَ أَيُّوبَ فِي مَسْجِدِهِ مُتَضَرِّعاً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْوَاعِ الثَّنَاءِ،دَاعِياً إِلَيْهِ بِأَعْظَمِ الدُّعَاءِ،وَ يَشْكُرُهُ عَلَى جَمِيعِ النَّعْمَاءِ،وَ يَحْمَدُهُ عَلَى جَمِيعِ الْبَلاَءِ،وَ هُوَ يَقُولُ:وَ عِزَّتِكَ وَ جَلاَلِكَ،لاَ ازْدَدْتُ عَلَى بَلاَئِكَ إِلاَّ شُكْراً،وَ لَوْ أَلْبَسْتَنِي ثَوْبَ الْبَلاَءِ سَرْمَداً لاَ ازْدَدْتُ عَلَى بَلاَئِكَ إِلاَّ صَبْراً.قَالَ:فَلَمَّا سَمِعَ إِبْلِيسُ اغْتَاظَ مِنْ قَوْلِهِ،وَ عَجَّلَ،وَ لَمْ يَتْرُكْهُ حَتَّى يَرْفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ،فَانْحَدَرَ فِي الْأَرْضِ حَتَّى صَارَ تَحْتَ أَنْفِهِ،ثُمَّ نَفَخَ فِي فِيهِ وَ مَنْخِرَيْهِ نَارَ اللَّهَبِ،فَاسْوَدَّ وَجْهُ أَيُّوبَ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)فِي الْحَالِ،فَصَارَ قَرْحَةً وَاحِدَةً مِنْ قَرْنِهِ إِلَى قَدَمَيْهِ،فَتَمَعَّطَ مِنْهَا شَعْرُهُ،فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي وَرِمَ،وَ عَظُمَ،وَ فِي الثَّالِثِ اسْوَدَّ،وَ فِي الرَّابِعِ امْتَلَأَ مَاءً أَصْفَرَ،وَ فِي الْخَامِسِ صَارَ قَيْحاً، وَ فِي السَّادِسَ وَقَعَ فِيهِ الدُّودُ،وَ سَالَ صَدِيدُهُ،وَ وَقَعَ فِيهِ الْحِكَاكُ [1]،فَحَكَّ جَسَدَهُ شَهْرَيْنِ حَتَّى سَقَطَتْ أَظَافِيرُهُ، ثُمَّ حَكَّ بِالْمُسُوحِ وَ الْخِرَقِ،وَ بِالْحِجَارَةِ الْخَشِنَةِ،وَ كَانَ إِذَا رَأَى دُودَةً سَقَطَتْ مِنْ بَدَنِهِ رَدَّهَا بِيَدِهِ إِلَى مَوْضِعِهَا، وَ يَقُولُ لَهَا:كُلِي مِنْ لَحْمِي وَ دَمِي حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِالْفَرَجِ.
فَقَالَتْ رَحْمَةُ:يَا أَيُّوبُ،ذَهَبَ الْمَالُ وَ الْوَلَدُ،وَ قَدْ بَدَأَ الضُّرُّ فِي الْجَسَدِ.فَقَالَ أَيُّوبُ:يَا رَحْمَةُ،إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَلَى النَّبِيِّينَ مِنْ قَبْلِي فَصَبَرُوا،وَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ الصَّابِرِينَ خَيْراً.ثُمَّ خَرَّ أَيُّوبُ سَاجِداً،وَ جَعَلَ يَقُولُ:إِلَهِي وَ سَيِّدِي،لَوْ جَعَلْتَ عَلَيَّ ثَوْبَ الْبَلاَءِ سَرْمَداً،وَ حَرَمْتَنِي الْعَافِيَةَ،وَ مَزَّقَتْنِي الدِّيدَانُ،مَا ازْدَدْتُ إِلاَّ شُكْراً،إِلَهِي لاَ تُشْمِتْ بِي عَدُوِّي إِبْلِيسَ اللَّعِينَ».
قَالَ:«وَ كَانَتْ رَحْمَةُ تَبْكِي مَرَّةً،وَ تَصْرُخُ أُخْرَى لِمَا تَرَى مِنْ بَلاَءِ أَيُّوبَ،وَ هُوَ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)يَنْهَاهَا عَنْ ذَلِكَ،وَ يَقُولُ لَهَا:أَ لَسْتِ أَنْتِ مِنْ بَنَاتِ الْأَنْبِيَاءِ،وَ تَعْلَمِينَ أَنِّي نَبِيُّ اللَّهِ،وَ أَنَّ لِي أُسْوَةً بِالنَّبِيِّينَ وَ الْمُرْسَلِينَ،وَ آبَائِكَ:إِبْرَاهِيمَ، وَ إِسْمَاعِيلَ،وَ إِسْحَاقَ،وَ يَعْقُوبَ،وَ يُوسُفَ؟ثُمَّ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى لَهَا الصَّبْرَ عَلَى مَا تُشَاهِدُ مِنْهُ،ثُمَّ قَالَ لَهَا أَيُّوبُ:
انْطَلِقِي الْتَمِسِي لِي مَوْضِعاً غَيْرَ مَسْجِدِي فَاحْمِلِينِي إِلَيْهِ.فَمَضَتْ رَحْمَةُ،وَ نَظَرَتْ لَهُ مَوْضِعاً،ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ فَاحْتَمَلَتْهُ إِلَى فَضَاءٍ مِنَ الْأَرْضِ،وَ كَانَ قَدْ قَالَ لَهَا:إِنِّي لاَ أُحِبُّ أَنْ يَتَلَوَّثَ الْمَسْجِدُ.
ثُمَّ انْطَلَقَتْ إِلَى قَوْمٍ كَانَ أَيُّوبُ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)يَبَرُّهُمْ وَ يُحْسِنُ إِلَيْهِمْ كَثِيراً،فَلَمَّا الْتَمَسَتْ لَهُ مَوْضِعاً،طَلَبَتْهُمْ أَنْ يُعِينُوهَا عَلَى إِخْرَاجِ أَيُّوبَ مِنَ الْمَسْجِدِ.فَقَالُوا لَهَا:إِنْ أَيُّوبَ قَدْ غَضِبَ عَلَيْهِ رَبُّهُ وَ هَتَكَ سِتْرَهُ لِمَا كَانَ فِعْلُهُ مِنْ الرِّيَاءِ،فَيَا لَيْتَ كَانَ بَيْنَنَا وَ بَيْنَهُ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ،فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِ خَيْرٌ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ،مَا ابْتَلاَهُ.فَرَجَعَتْ رَحْمَةُ إِلَى أَيُّوبَ،وَ قَالَتْ لَهُ:يَا أَيُّوبُ،جَلَّتِ الْمُصِيبَةُ،خَابَ أَمَلُنَا مِنْ أَهْلِ الْمَعَارِفِ وَ أَهْلِ الاِصْطِنَاعِ.فَقَالَ لَهَا:يَا رَحْمَةُ، هَكَذَا يَكُونُونَ أَهْلُ الْبَلاَءِ،وَ لَكِنْ تَقَدَّمِي إِلَيَّ،وَ قُولِي:لاَ حَوْلَ وَ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ،وَ أَدْخِلِي يَدَكِ الْيُمْنَى تَحْتَ رَأْسِي،وَ يَدَكِ الْيُسْرَى تَحْتَ رِجْلَيَّ،وَ احْمِلِينِي.فَفَعَلَتْ ذَلِكَ،وَ احْتَمَلَتْهُ بِقُوَّةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى أَخْرَجَتْهُ إِلَى الْفَضَاءِ،وَ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُوضَعُ فِيهِ الْمَوَائِدُ مِنْ أَيُّوبَ لِلضُّعَفَاءِ وَ الْمَسَاكِينِ.
ثُمَّ قَالَ:يَا رَحْمَةُ،إِنَّ الصَّدَقَةَ حَرَامٌ عَلَيْنَا،وَ لاَ تَحِلُّ لَنَا،فَاحْتَالَيْ فِي الْخِدْمَةِ.فَأَسْبَلَ دَمْعَتَهُ.فَقَالَتْ رَحْمَةُ:مَا يُبْكِيكَ،يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟فَقَالَ لَهَا:يَا رَحْمَةُ،أَنْتِ مِنْ بَنَاتِ النَّبِيِّينَ،وَ مِنْ نَسْلِ الْمُرْسَلِينَ،وَ أَنْتِ امْرَأَةٌ عَظِيمَةُ الْحُسْنِ
[1] الحكاك:داء يحكّ منه كالجرب.«المعجم الوسيط-حكك-1:190».