وَ سَلَبَ عَنْهُ نِعْمَتَهُ،وَ لَوْ عَلِمَ فِيكَ خَيْراً لَأَخْبَرَنِي بِكَ،وَ لِقَبْضِ رُوحِكَ مَعَ أَرْوَاحِ الرُّعَاةِ،وَ لَكِنَّهُ عَلِمَ فِيكَ شَرّاً فَخَلَّصَكَ مِنْهَا كَمَا يُخَلَّصُ الزُّوَانُ [1] مِنَ الْقَمْحِ،فَسِرْ عَنِّي-أَيُّهَا الْعَبْدُ-مَذْمُوماً مَدْحُوراً.فَقَالَ إِبْلِيسُ:صَدَقَ مَنْ قَالَ:لاَ تَخْدِمُوا الْمُتَكَبِّرِينَ.يَا أَيُّوبُ،الْآنَ عَلِمْتُ أَنَّكَ كُنْتَ مُرَائِياً فِي صَلاَتِكَ،أَ لَمْ أَكُنْ لَكَ عَبْداً شَفِيقاً مِنْ عَبِيدِكَ، أَ لَمْ أَكُنْ حَرِيصاً عَلَى أَمْوَالِكَ،فَمَا جَزَائِي مِنْكَ إِلاَّ أَنْ تُعَيِّرَنِي بِمَا نَالَنِي مِنْ وَهَجِ الْحَرِيقِ،دُونَ أَنْ تَقُولَ مَا تَقُولُهُ؟فَلَمْ يُكَلِّمْ إِبْلِيسَ،وَ أَقْبَلَ أَيُّوبُ عَلَى صَلاَتِهِ.
وَ انْصَرَفَ عَنْهُ إِبْلِيسُ خَائِباً ذَلِيلاً،وَ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ كَمَا كَانَ يَصْعَدُ،وَ وَقَفَ كَمَا كَانَ يَقِفُ،فَنُودِيَ:يَا مَلْعُونٌ،كَيْفَ وَجَدْتَ عَبْدِي أَيُّوبَ،كَيْفَ صَبَرَ عَلَى ذَهَابِ أَمْوَالِهِ جَمِيعاً،مِنَ الْمَوَاشِي،وَ الْعَبِيدِ،وَ غَيْرِهَا،وَ كَيْفَ حَمِدَنِي عَلَى الْبَلِيَّةِ؟فَقَالَ اللَّعِينُ:إِلَهِي وَ سَيِّدِي،إِنَّكَ مَتَّعْتَهُ بِعَافِيَةِ أَوْلاَدِهِ،وَ زَخَارِفِ دُورِهِ،وَ لَوْ سَلَّطْتَنِي عَلَى دُنْيَاهُ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ لاَ يُؤَدِّي إِلَيْكَ شُكْرَ نِعْمَةٍ أَبَداً.فَنُودِيَ:يَا مَلْعُونٌ،اذْهَبْ،فَقَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى أَوْلاَدِهِ».
قَالَ:فَانْقَضَّ عَدُوُّ اللَّهِ إِلَى قَصْرِ أَيُّوبَ الَّذِي فِيهِ أَوْلاَدُهُ،فَأَمَّا الْبَنُونَ:فَحَزْقَلُ،وَ هُوَ أَكْبَرُهُمْ،وَ مُقْبِلٌ،وَ رُشْدٌ، وَ رُشَيْدٌ،وَ بِهَارُونُ،وَ بَشِيرٌ،وَ أَقْرُونُ،وَ الْبَاقِي مِنَ الذُّكُورِ،لَمْ نَجِدْ لَهُمْ أَسْمَاءَ فِي الْكُتُبِ وَ الْقِصَصِ.وَ أَمَّا الْبَنَاتُ:
فَمَرْجَانَةُ [2]،وَ عُبَيْدَةُ،وَ صَالِحَةٌ،وَ عَافِيَةُ،وَ تَقِيَّةُ [3]،وَ مُؤْمِنَةُ.قَالَ:«فَزَلْزَلَ عَلَيْهِمْ الْقَصْرَ بِنَفَسِهِ حَتَّى سَقَطَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ،وَ جَعَلَ يَشُدُّ أَفْوَاهَهُمْ بِالْخَشَبِ،وَ الْخِرَقِ،وَ يَقْذِفُهُمْ بِالْجَنْدَلِ،حَتَّى مَثَّلَ بِهِمْ أَقْبَحَ مُثْلَةٍ،وَ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْأَرْضِ:أَنِ احْفَظِي أَوْلاَدَ النَّبِيِّ أَيُّوبَ،فَإِنِّي بَالِغُ مَشِيْئَتِي فِيهِمْ،وَ لَأْجِزَيَنَّهُمْ بِذَلِكَ الثَّوَابَ.فَأَقْبَلَ إِبْلِيسُ إِلَى أَيُّوبَ،وَ قَالَ:يَا أَيُّوبُ،لَوْ رَأَيْتَ قُصُورَكَ وَ أَوْلاَدَكَ كَيْفَ صَارُوا،وَ لَقَدْ صَارَتْ قُصُورُهُمْ لَهُمْ قُبُوراً،وَ طِيْنُهَا صَارَ لَهُمْ حَنُوطاً،وَ ثِيَابُهُمْ وَ فُرُشُهُمْ صَارَتْ لَهُمْ أَكْفَاناً،وَ لَوْ أَبْصَرْتَ كَيْفَ تَغَيَّرَتْ تِلْكَ الْوُجُوهُ الْحِسَانُ بِالدِّمَاءِ وَ التُّرَابِ، وَ الْعِظَامُ كَيْفَ تَهَشَّمَتْ،وَ اللُّحُومُ كَيْفَ رُصِعَتْ [4]،وَ الْجُلُودُ كَيْفَ تَمَزَّقَتْ.وَ لَمْ يَزَلْ إِبْلِيسُ اللَّعِينُ يَعُدُّ عَلَيْهِ مِثْلَ هَذَا بِافْتِجَاعٍ وَ انْكِسَارٍ وَ انْتِحَابٍ حَتَّى بَكَى أَيُّوبُ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)،وَ سَاعَدَهُ إِبْلِيسُ عَلَى الْبُكَاءِ،فَنَدِمَ أَيُّوبُ عَلَى بُكَائِهِ، وَ أَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ،وَ وَضَعَهَا عَلَى رَأْسِهِ،وَ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى،وَ خَرَّ سَاجِداً،ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى إِبْلِيسَ،وَ قَالَ لَهُ:يَا مَلْعُونٌ،انْصَرِفْ عَنِّي خَائِباً ذَلِيلاً مَدْحُوراً،فَإِنَّ أَوْلاَدِي كَانُوا عَارِيَّةً لِلَّهِ تَعَالَى عِنْدِي،وَ لاَ بُدَّ مِنَّ اللَّحَاقِ بِهِمْ».
قَالَ:«فَانْصَرَفَ إِبْلِيسُ وَ لَمْ يَنَلْ مِنْهُ،وَ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ كَمَا كَانَ يَصْعَدُ،وَ وَقَفَ كَمَا كَانَ يَقِفُ،فَأَتَاهُ النِّدَاءُ:يَا مَلْعُونٌ،كَيْفَ رَأَيْتَ عَبْدِي أَيُّوبَ وَ تَوْبَتَهُ وَ اسْتِغْفَارَهُ بَعْدَ بُكَائِهِ؟فَقَالَ إِبْلِيسُ:إِلَهِي وَ سَيِّدِي،إِنَّكَ مَتَّعْتَهُ بِعَافِيَةِ نَفْسِهِ، وَ فِيهَا عِوَضٌ عَنِ الْمَالِ وَ الْوَلَدِ،فَلَوْ سَلَّطْنَتِي عَلَى بَدَنِهِ لَرَأَيْتَهُ كَيْفَ يَنْسَى ذِكْرَكَ،وَ يَتْرُكُ شُكْرَكَ.فَنُودِيَ:يَا لَعِينُ، اذْهَبْ،فَقَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى بَدَنِهِ،مَا خَلاَ:عَيْنَيْهِ [5]،وَ عَقْلَهُ،وَ لِسَانَهُ الَّذِي لاَ يَفْتُرُ عَنِ ذِكْرِي،وَ أُذُنَيْهِ».
[1] الزوان:حبّ يخالط البرّ.«الصحاح-زون-5:2133».
[2] في«ي،ط»:فنحاة،و في«ج»و«ط»نسخة بدل:فمنجاة.
[3] في المصدر:نفيسة.
[4] رصع الحبّ:دقّه بين حجرين.«لسان العرب-رصع-8:125».
[5] في المصدر:قلبه و عينه.