قال:
و توقّعت مجيء الخادم إليّ، فقلت للرجل: بأبي أنت! خذ العود فشدّ وتر كذا و ارفع
الطبقة و حطّ دستان كذا؛ ففعل ما أمرته. و خرج الخادم فقال لي: تغنّ عافاك اللّه؛
فتغنّيت بصوت الرجل الأوّل على غير ما غنّاه، فإذا جماعة من الخدم يحضرون حتى
استندوا إلى الأسرّة و قالوا: ويحك! لمن هذا الغناء؟ قلت: لي؛ فانصرفوا عنّي بتلك
السرعة، و خرج إليّ الخادم و قال: كذبت! هذا الغناء لابن جامع. و دار الدور؛ فلما
انتهى الغناء إليّ قلت للجارية التي تلي الرجل: خذي العود،/ فعلمت ما أريد فسوّت
العود على غنائها للصوت الثاني فتغنّيت به. فخرجت إليّ الجماعة الأولى من الخدم
فقالوا: ويحك! لمن هذا؟ قلت: لي؛ فرجعوا و خرج الخادم [1].
فتغنيت بصوت لي
فلا يعرف إلا بي، و سقوني فتزيّدت، و هو:
قال: فتزلزلت و
اللّه الدار عليهم. و خرج الخادم فقال: ويحك! لمن هذا الغناء؟ قلت: لي. فرجع ثم
خرج فقال: كذبت! هذا غناء ابن جامع. فقلت: فأنا إسماعيل بن جامع. فما شعرت إلا و
أمير المؤمنين و جعفر بن يحيى قد أقبلا من وراء الستر الذي كان يخرج منه الخادم.
فقال لي الفضل بن الربيع: هذا أمير المؤمنين قد أقبل إليك.
فلما صعد
السرير و ثبت قائما. فقال لي: ابن جامع؟ قلت: ابن جامع، جعلني اللّه فداك يا أمير
المؤمنين. قال:
ويحك! متى كنت
في هذه البلدة؟ قلت: آنفا، دخلتها في الوقت الذي علم بي أمير المؤمنين. قال: اجلس
ويحك يا ابن جامع! و مضى هو و جعفر فجلسا في بعض تلك المجالس، و قال لي: أبشر و
ابسط أملك؛ فدعوت له. ثم قال:
غنّني يا ابن
جامع. فخطر بقلبي صوت الجارية الحميراء فأمرت الرجل/ بإصلاح العود على ما أردت من
الطبقة، فعرف ما أردت، فوزن العود وزنا و تعاهده حتى استقامت الأوتار و أخذت
الدساتين مواضعها، و انبعثت أغنّي بصوت الجارية الحميراء. فنظر الرشيد إلى جعفر و
قال: أسمعت كذا قطّ؟ فقال: لا و اللّه/ ما خرق مسامعي قطّ مثله.
فرفع الرشيد
رأسه إلى خادم بالقرب منه فدعا بكيس فيه ألف دينار فجاء به فرمى به إليّ، فصيّرته
تحت فخذي و دعوت لأمير المؤمنين. فقال: يا ابن جامع، ردّ على أمير المؤمنين هذا
الصوت، فرددته و تزيّدت فيه. فقال له جعفر: يا سيّدي، أ ما تراه كيف يتزيّد في
الغناء! هذا خلاف ما سمعناه أوّلا و إن كان الأمر في اللحن واحدا. قال:
فرفع الرشيد
رأسه إلى ذلك خادم فدعا بكيس آخر فيه ألف دينار، فجاءني به فصيّرته تحت فخذي. و
قال: تغنّ يا إسماعيل ما حضرك. فجعلت أقصد الصوت بعد الصوت مما كان يبلغني أنه
يشتري عليه الجواري فأغنّيه؛ فلم أزل أفعل ذلك إلى أن عسعس الليل. فقال: أتعبناك
يا إسماعيل هذه الليلة بغنائك، فأعد على أمير المؤمنين الصوت (يعني صوت الجارية)
فتغنّيت. فدعا الخادم و أمره فأحضر كيسا ثالثا فيه ألف دينار. قال: فذكرت ما كانت
الجارية قالت لي فتبسّمت، و لحظني فقال: يا ابن الفاعلة، ممّ تبسمت؟ فجثوت على
ركبتيّ و قلت: يا أمير المؤمنين، الصدق منجاة. فقال لي بانتهار: قل. فقصصت عليه
خبر الجارية. فلما استوعبه قال: صدقت، قد يكون هذا و قام. و نزلت من السرير و لا
أدري أين أقصد. فابتدرني فرّاشان فصارا بي إلى دار قد أمر بها أمير المؤمنين؛
ففرشت و أعدّ فيها جميع ما يكون في مثلها من آلة جلساء الملوك و ندمائهم من الخدم،
و من كل آلة و خول إلى جوار
[1]
الذي يتتبع سياق الخبر يشعر بأن هاهنا نقصا. و لعل أصل الجملة: «و خرج الخادم فقال
كذبت فتغنيت ... إلخ».
[2] كذا في
جميع الأصول هنا. و في «ترجمة العرجي» (ج 1 ص 408 من «الأغاني» طبع دار الكتب
المصرية) و فيما سيأتي في ب، س:
«النفر». و
النفر: هو نفر الحاج من منى و يكون في اليوم الثاني و يسمى النفر الأول. و الثاني
يكون في اليوم الثالث من أيام التشريق.