إليها،
و تبعهم حكم و عليه فروة [1]، فدخلوا و دخل معهم، و صاحب المنزل يظن أنه معهم و هم
يظنون أنه من قبل صاحب المنزل و لا يعرفونه. فغنّت الجارية أصواتا ثم غنّت صوتا ثم
صوتا. فقال حكم الواديّ: أحسنت و اللّه! و صاح. فقال له ربّ البيت: يا ماصّ كذا و
كذا من أمه! و ما يدريك ما الغناء! فوثب عليه يتعتعه [2] و أراد ضربه.
فقال له حكم:
يا عبد اللّه، دخلت بسلام و أخرج كما دخلت، و قام ليخرج. فقال له ربّ البيت: لا أو
أضربك. فقال حكم: على رسلك، أنا أعلم بالغناء منك و منها، و قال: شدّي موضع كذا و
أصلحي موضع كذا، و اندفع يغنّي.
فقالت الجارية:
إنه و اللّه أبو يحيى! فقال ربّ المنزل: جعلت فداك! المعذرة إلى اللّه و إليك! لم
أعرفك! فقام حكم ليخرج فأبى الرجل؛ فقال: و اللّه لأخرجنّ، فسأعود إليها لكرامتها
لا لكرامتك.
لامه ابنه
على غنائه الأهزاج فأجابه:
و ذكر أحمد بن
المكيّ عن أبيه: أنّ حكما لم يشهر بالغناء و يذهب له الصّوت [3] به حتى صار الأمر
إلى بني العباس؛ فانقطع إلى محمّد بن أبي العباس أمير المؤمنين و ذلك في خلافة
المنصور؛ فأعجب به و اختاره على المغنّين و أعجبته أهزاجه. و كان يقال: إنه من
أهزج الناس. و يقال: إنه غنّى الأهزاج في آخر عمره، و إن ابنه لامه على ذلك، و قال
له: أبعد الكبر تغنّي غناء المخنّثين! فقال له: اسكت فإنك جاهل، غنّيت الثقيل ستين
سنة فلم أنل إلا القوت، و غنّيت الأهزاج منذ سنيّات فأكسبتك ما لم تر مثله قطّ.
شهد له يحيى
بن خالد بجودة الأداء:
قال هارون بن
محمد و قال يحيى بن خالد:
ما رأينا فيمن
يأتينا من المغنّين أحدا أجود أداء من حكم. و ليس أحد يسمع [4] غناء ثم يغنّيه بعد
ذلك إلا و هو يغيّره و يزيد فيه و ينقص إلا حكما. فقيل لحكم ذلك/ فقال: إني لست
أشرب، و غيري يشرب، فإذا شرب تغيّر غناؤه.
استكثر
المنصور ما كان يعطاه من هدايا ثم عدل عن رأيه:
أخبرني إسماعيل
بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال:
كان خبر حكم
الواديّ يتناهى إلى المنصور و يبلغه ما يصله به بنو سليمان بن عليّ، فيعجب لذلك و
يستسرفه و يقول: هل هو إلا أن حسّن شعرا بصوته و طرّب مستمعيه، فما ذا يكون! و
علام يعطونه هذه العطايا المسرفة! إلى أن جلس يوما في مستشرف له، و قد كان حكم دخل
إلى رجل من قوّاده- أراه قال: عليّ [5] بن يقطين أو أبوه- و هو
[1]
الفروة و الفرو: شيء نحو الجبة يبطن من جلود بعض الحيوان كالأرانب و الثعالب و
السمور.
[2] كذا في
ح. و تعتعه: تلتله و حركه بعنف. و في سائر الأصول: «يتعنفه» و هو تحريف.
[3] في ب، س:
«الصيت». و الصوت و الصيت الذكر الحسن الذي ينتشر بين الناس.
[4] كذا في
ح. و في سائر الأصول: «و ليس أحد يسمع منه غناء ... إلخ». و الظاهر أن كلمة «منه»
مقحمة.
[5] كان
يقطين بن موسى البغدادي من وجوه الدعاة، و طلبه مروان فهرب. و ابنه علي بن يقطين
ولد بالكوفة سنة أربع و عشرين و مائة.
و هربت أم
علي به و بأخيه عبيد بن يقطين إلى المدينة. فلما ظهرت الدولة الهاشمية ظهر يقطين و
عادت أم علي بعلي و عبيد. فلم يزل يقطين في خدمة أبي العباس و أبي جعفر المنصور، و
كان مع ذلك يرى رأي آل أبي طالب و يقول بإمامتهم، و كذلك ولده، و كان يحمل الأموال
إلى جعفر بن محمد بن علي و الألطاف. و نم خبره إلى المنصور و المهدي فصرف اللّه
عنه كيدهما. و توفي علي بن يقطين بمدينة السلام سنة 182 ه و سنه 57 سنة و صلى عليه
ولي العهد محمد بن الرشيد و توفي أبوه بعده في سنة 185 ه (عن «فهرست ابن النديم»).