فانصرف جرير مغضبا حتى إذا
صلّى العشاء و منزله في علّيّة قال: ارفعوا إليّ باطية من نبيد، و أسرجوا [1] لي،
فأسرجوا له و أتوه بباطية من نبيذ فجعل يهيم فسمعته عجوز في الدّار، فطلعت في
الدّرجة حتى إذا نظرت إليه فإذا هو على الفراش عريان لما هو فيه، فانحدرت فقالت:
ضيفكم مجنون، رأيت منه كذا و كذا، فقالوا لها: اذهبي لطيّتك، نحن أعلم به و بما
يمارس، فما زال كذلك حتّى كان السّحر فإذا هو يكبّر، قد قالها ثمانين بيتا، فلمّا
بلغ إلى قوله:
فغضّ الطّرف إنّك من
نمير
فلا كعبا بلغت و لا كلابا
فذاك حين كبّر، ثم قال:
أحزيته و اللّه [2] زيته و ربّ الكعبة [3] أصبح، حتى إذا عرف أنّ النّاس قد جلسوا
في مجالسهم بالمربد، و كان جرير يعرف مجلس الرّاعي و مجلس الفرزدق، فدعا بدهن
فادّهن [3]، و كفّ رأسه، و كان حسن الشّعر، ثم قال: يا غلام [4] أسرج لي، فأسرج له
حصانا، ثمّ قصد مجلسهم، حتّى إذا كان بموضع [5] السّلام لم يسلّم، ثم قال: يا
غلام، قل لعبيد/ الرّاعي: أ بعثتك نسوتك تكسبهنّ المال بالعراق؟ و الذي نفس جرير
بيده، لترجعنّ [6] إليهنّ بما يسوؤهن و لا يسرهن ثم ندفع في القصيدة فأنشدها،
فنكّس الفرزدق رأسه، و أطرق راعي الإبل، فلو انشقّت له الأرض لساخ فيها، و أرمّ
القوم [7]، حتى إذا فرغ منها، سار، فوثب راعي الإبل من ساعته [8] فركب بغلته/ بشرّ
و عرّ [9]، و تفرّق أهل المجلس، و صعد الرّاعي إلى منزله الذي كان ينزله، ثم قال
لأصحابه:
ركابكم ركابكم، فليس لكم
هاهنا مقام، فضحكم و اللّه جرير فقال له بعضهم: ذلك شؤمك و شؤم جندل ابنك؛ قال:
فما اشتغلوا بشيء غير ترحّلهم، قالوا: فسرنا و اللّه إلى أهلنا سيرا ما سراه أحد،
و هم بالشّريف [10]، و هو أعلى دار بني نمير، فحلف راعي الإبل أنّهم وجدوا في
أهلهم قول جرير:
فغضّ الطّرف إنّك من
نمير
يتناشده النّاس، و أقسم
باللّه ما بلغه إنسان قطّ، و إن لجرير لأشياعا من الجنّ فتشاءمت به بنو نمير، و
سبّوه و سبّوا ابنه، فهم إلى الآن يتشاءمون بهم و بولدهم.
أخزيته و اللّه و أخبرني
بهذا الخبر عمّي قال: حدثنا الكرانيّ، قال: حدّثني النّضر بن عمرو؛ عن أبي عبيدة
بمثله أو نحو