قلت لابن جامع [1] يوما:
هل غلبك أحد من المغنين قط؛ قال: نعم؛ كنت ليلة ببغداد إذ جاءني رسول الرشيد [2]؛
يأمرني بالركوب؛ فركبت حتى إذا صرت إلى الدار، فإذا أنا بفضل بن الربيع معه زلزل
العواد و برصوما: فسلمت و جلست قليلا، ثم طلع خادم فقال للفضل: هل جاء؟ فقال: لا،
قال: فابعث إليه؛ و لم يزل المغنون يدخلون واحدا بعد واحد حتى كنا ستة أو سبعة.
ثم طلع الخادم فقال: هل
جاء؟ فقال: لا، قال: قم [3]؛ فابعث في طلبه؛ فقام فغاب غير طويل؛ فإذا هو قد جاء
بعمرو بن أبي الكنّات؛ فسلم؛ و جلس إلى جنبي فقال لي: من هؤلاء؟ قلت مغنون؛ و هذا
زلزل، و هذا برصوما. فقال: و اللّه لأغنينك غناء يخرق هذا السقف و تجيبه الحيطان و
لا يفهمون منه شيئا. قال: ثم طلع الخصيّ فدعا بكراسيّ؛ و خرجت الجواري. فلما جلسن
قام الخادم للمغنين: شدوا، فشدّوا عيدانهم [4]، ثم قال: نعم يا بن جامع؛ فغنيت سبعة
أو ثمانية أصوات. ثم قال: اسكت و ليغنّ إبراهيم الموصلي؛ فغنى مثل ذلك أو دونه. ثم
سكت؛ فلم يزل يمرّ القوم واحدا واحدا حتى فرغوا.
/ ثم
قال: لابن أبي الكنّات: غنّ، فقال لزلزل: شد طبقتك [5]، فشد ثم أخذ العود من يده
فحبّسه حتى وقف على الموضع الّذي يريده، ثم قال: على هذا و ابتدأ بصوت أوله:
ألالا: فو اللّه لقد خيّل لي أن الحيطان تجاوبه. ثم رجع النغم فيه. فطلع الخصيّ
فقال له: اسكت. لا تتم الصوت، فسكت.
ثم قال: يحبس عمرو بن أبي
الكنّات، و ينصرف باقي المغنين، فقمنا بأكسف حال و أسوإ بال، لا و اللّه ما زال كل
واحد منا يسأل صاحبه عن كل شعر يرويه من الغناء الّذي أوله: ألالا، طمعا في أن
يعرفه أو يوافق غناءه. فما عرفه منا أحد و بات عمرو ليلته عند الرشيد، و انصرف/ من
عنده بجوائز و صلات و طرف سنيه.
يغني و قد دفع من عرفة
فيزحم الناس الطريق:
قال هارون: و أخبرني محمد
بن عبد اللّه عن موسى بن أبي المهاجر قال:
خرج ابن جامع و ابن أبي
الكنّات حين [6] دفعا من عرفة حتى إذا كان بين المأزمين [7] جلس عمرو على طرف
الجبل، ثم اندفع يغني، فوقف القطارات، و ركب الناس بعضهم بعضا حتى صاحوا و
استغاثوا: يا هذا، اللّه اللّه.
اسكت عنا يجز الناس، فضبط إسماعيل
بن جامع بيده على فيه حتى مضى الناس إلى مزدلفة.
يغني على جسر بغداد
فتمتلئ الجسور بالناس:
قال هارون: و حدّثني عبد
الرحمن بن سليمان عن عليّ بن أبي الجهم قال: حدّثني من أثق به قال.
وافقت ابن أبي الكنّات
المديني [8] على جسر بغداد أيام الرشيد. فحدثته بحديث اتصل بي عن ابن عائشة أنه