الثاني: أنّ أسباب الرحمة لا تنحصر في الطاعون و قد عوّضهم النبي (صلّى اللّه عليه و سلّم) عنه الحمّى حيث اختارها عند ما عرضها عليه كما تقدم، و هي طهرة للمؤمن، و حظّه من النار، و الطاعون يأتي في بعض الأعوام، و الحمّى تتكرر في كل حين، فتعادلا، و فيه نظر، لأن تكثير أسباب الرحمة مطلوب، و لأنه لا يرفع إشكال التّمدّح بعدمه.
الثالث: أنه و إن اشتمل على الرحمة و الشهادة، فقد ورد أن سببه أشياء تقع من الأمّة كظهور بعض المعاصي، و قد روى الإمام أحمد بأسانيد حسان صحاح عن شرحبيل بن حسنة و غيره «أنه- يعني الطاعون- رحمة ربّكم و دعوة نبيّكم، و موت الصالحين قبلكم».
و روى الإمام أحمد تفسير كونه دعوة نبيّكم عن أبي قلابة رضي اللّه عنه بأنه (صلّى اللّه عليه و سلّم) سأل ربّه عز و جل أن لا يهلك أمّته السنة، فأعطانيها، و سأله أن لا يسلّط عليهم عدوّا من غيرهم، فأعطانيها، و سأله أن لا يلبسهم شيئا، و لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعه،
فقال النبي (صلّى اللّه عليه و سلّم) في دعائه: «فحمّى إذا أو طاعونا»
ثلاثا، فقد تضمّن الطاعون نوعا من المؤاخذة، لأنه (صلّى اللّه عليه و سلّم) دعا به لتحصل كفاية إذاقة بعضهم بأس بعض، و يكون هلاكهم حينئذ بسبب لا يعصون به فحفظ اللّه تعالى بلد نبيّه (صلّى اللّه عليه و سلّم) من الطاعون المشتمل على الانتقام إكراما لنبيّه (صلّى اللّه عليه و سلّم) و جعل لهم الحمّى المضعفة للأبدان عن إذاقة بعضهم بأس بعض، و المطهّرة لهم،
بقوله (صلّى اللّه عليه و سلّم): «فحمّى إذا»
أي للموضع الذي لا يدخله الطاعون بل عصم منه، و هو جواره الشريف.
و قوله: «أو طاعونا»
أي للموضع الذي لم يعصم منه و هو سائر البلاد، هذا ما قال السيد نور الدين، و هذا ما ظهر لي في فهم هذه الأحاديث و هو يقتضي شرف الحمّى الواقعة بالمدينة، و فضلها، لأنها دعوة نبيّنا (صلّى اللّه عليه و سلّم) و رحمة بنا أيضا، لأنّها من لازم دعوته و لأنها جعلت في مقابلة الطاعون الذي هو رحمة لغيرهم فتكون الحمّى رحمة لهم فهي غير حمّى الوباء الذّاهبة من المدينة، و اللّه تعالى أعلم.
قال الحافظ: و الحقّ أن المراد بالطاعون في هذه الأحاديث الذي ينشأ عن طعن الجنّ فيهيج به الدّم في البدن، فهذا لم يدخل المدينة قطّ.
التاسعة و الأربعون بعد المائة.
و بأنه (صلّى اللّه عليه و سلّم) لما عادت الحمّى إلى المدينة باختياره إياها، لم تستطع أن تأتي أحدا من أهلها حين جاءت و وقفت ببابه، و استأذنته فيمن يبعثها إليه فأرسلها إلى الأنصار.
روى الإمام أحمد برجال الصحيح و أبو يعلى و الطبراني و ابن حبّان في صحيحه عن جابر رضي اللّه عنه قال: استأذنت الحمّى على رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و سلّم) فقال: «من هذه؟» قالت: أمّ ملدم، فأمر بها إلى أهل قباء، فلقوا ما لا يعلمه إلا اللّه تعالى، فأتوه، فشكوا ذلك إليه فقال: «ما