وإمّا لأنّ العقل يحكم بلزوم الاحتياط عند ترك الفحص ، فهذا الحكم منه يمكن أن يكون بياناً وحجّة .
وإن شئت قلت : إنّ العقل يحكم على سبيل التخيير بين الفحص والاحتياط عند تركه ، فلو فحص عن مظانّ البيان يجري البراءة العقلية ; لتحقّق موضوعها ـ أعني عدم البيان ـ ومع ترك الفحص يحكم بالاحتياط في المقام ; للتحفّظ على الواقع ، فمخالفته مع حكمه بالاحتياط يوجب صحّة العقوبة .
ويحتمل الثاني ; بأن يقال : إنّ حكم العقل بلزوم الاحتياط قبل الفحص ليس لأجل التحفّظ على الواقع مستقلاّ ، بل لأجل احتمال ورود البيان في الكتاب والسنّة ، والمفروض أنّه لم يرد بيان فيهما .
فترك الاحتياط في هذه الموارد لايوجب استحقاق العقاب ; لأنّ المفروض عدم البيان في مظانّ وجوده الذي لأجله كان العقل يحكم بالاحتياط ; فضلا عن وجود الطريق المضادّ للواقع . فاستحقاقه للعقوبة مع ترك الفحص وحكم العقل بلزوم الاحتياط تابع لوجود بيان واصل من المولى ; بحيث لو تفحّص لوصل إليه .
وأمّا ما ذكرناه من أنّه ترك الواقع بلا حجّة فيمكن أن يدفع : بأنّه إنّما ترك الواقع مع وجود عذر واقعي مغفول عنه ، ومعه لايكون عاصياً ; وإن كان متجرّياً .
اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ العذر الواقعي المغفول عنه غير الملتفت إليه ليس بعذر .
والشاهد عليه : أنّه لو فرضنا أنّ شرب التتن كان حراماً واقعاً ، وقام به طريق ، لكنّه لو تفحّص عنه لوقف على دليل أرجح منه يدلّ على حلّيته ; بحيث كان له الأخذ بالأرجح حسب القواعد الاجتهادية ، ومعه لم يتفحّص وشربه وخالفه فلايمكن أن يعدّ وجود الدليل الراجح عذراً .
والمسألة يحتاج إلى التأمّل وإمعان النظر في مجال واسع .