في هذا الوقت يشعر المستبصر بالغربة في
مجتمعه وبين أهله وعشيرته ، ويشعر بالحزن والأسى لكثرة ما يعاين من عقليّات
ونفسيّات غريبة ، متناقضة مع ما يعرفه عن حبّ المسلم للحقيقة ، واستسلامه لأوامر
الله تعالى وانقياده لها ، ومتناقضة مع ما يعرفه عن المسلمين من حبهم لرسول الله
وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام ، والتزامهم بطاعتهم ، بل على العكس من ذلك ، فإنّه
يبصر أنّ الحقيقة ليست هي الحقيقة ، فكلّ تلك الشعارات من حبّ لله ولرسوله ، وشعارات
طاعة الله ورسوله ، وشعارات الإخلاص وابتغاء ما فيه رضاً لله ولرسوله ، لا قيمة
لها نهائياً عندهم ، بل إنّ الموازين هي الأخرى متناقضة لأمر الله تعالى ونهيه ، ومغايرة
لنهج رسوله صلىاللهعليهوآله
، ومتضاربة مع العقل والفطرة ، فيبدأ الإحساس الشديد بالغربة مع المجتمع والناس ، وليس
للمؤمن المستبصر في هذه اللحظات إلا إيمانه الشديد ، وعزيمته الصادقة ، بالإضافة
إلى ما يسري عنه في غربته من نصوص شرعيّة تجعله مطمئنّاً عزيزاً شامخاً راسخاً.
روى الترمذيّ والسيوطيّ والطبريّ
والقرطبيّ وغيرهم كثير أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله
قال : « إنّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ ، فطوبى للغرباء يوم
القيامة. قيل : من هم يا رسول الله؟ قال : هم الذين إذا فسد الناس صلحوا ، ثمّ قال
: ألا لا غربة على مؤمن ، وما مات مؤمن في غربة غائباً عنه بواكيه ، إلا بكت عليه
السماء والأرض ، ثمّ قرأ رسول الله صلىاللهعليهوآله
: ( فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالأَرْضُ )[١]
، ثمّ قال : ألا إنّهما لا يبكيان على الكافر » [٢].