و يصف عيسى عليه السّلام محتوى دعوته ب «الحكمة» في عبارته، و نحن نعلم أن
أساس الحكمة هو المنع من شيء بقصد إصلاحه، ثمّ أطلقت على كل العقائد الحقّة، و
برامج الحياة الصحيحة التي تصون الإنسان من أنواع الانحراف في العقيدة و العمل، و
تتناول تهذيب نفسه و أخلاقه، و على هذا فإنّ للحكمة هنا معنى واسعا يشمل «الحكمة
العلمية» و «الحكمة العملية».
و لهذه الحكمة- إضافة إلى ما مرّ- هدف آخر، و هو رفع الاختلافات التي تخلّ
بنظام المجتمع، و تجعل الناس حيارى مضطربين، و لهذا السبب نرى المسيح عليه السّلام
يؤكّد على هذه المسألة.
و هنا يطرح سؤال التفت إليه أغلب المفسّرين، و هو: لماذا يقول: قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ
بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ و لم لا يبيّن
الجميع؟
و قد ذكرت أجوبة عديدة لهذا السؤال، و أنسبها هو:
إنّ الاختلافات التي بين الناس نوعان: منها ما يكون مؤثرا في مصيرهم من
الناحية العقائدية و العملية، و منها ما يكون في الأمور غير المصيرية، كالنظريات
المختلفة حول نشأة المنظومة الشمسية و السماوات، و كيفية الأفلاك، و النجوم، و
ماهية روح الإنسان، و حقيقة الحياة، و أمثال ذلك.
و من الواضح أنّ الأنبياء مكلّفون أن ينهوا الاختلافات من النوع الأوّل و
يقتلعوها بواسطة تبيان الحقائق، و لكنّهم غير مكلّفين برفع أي اختلاف كان حتى و إن
لم يكن له تأثير في مصير الإنسان مطلقا.
و يحتمل أيضا أن تبيان بعض الاختلافات نتيجة و غاية لدعوة الأنبياء، أي إنّهم
سيوفقون أخيرا في حل بعض هذه الاختلافات، أمّا حلّ جميع الاختلافات في الدنيا
فإنّه أمر غير ممكن، و لذلك تبيّن آيات متعددة من القرآن المجيد أن أحد خصائص
القيامة هو ارتفاع كل الاختلافات و انتهاؤها، فنقرأ في الآية (92) من