لأنّه لا يوجد مقياس يحدّد أهواء الناس، مضافا إلى أنّها تميل إلى الشرّ و
الفساد غالبا، و لو اتّبعتها قوانين الوجود لعمّت الفوضى في الكون و لفسد العالم.
و تأكيدا لذلك تقول الآية: بَلْ
أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ[1] أي منحناهم
القرآن الذي هو أساس للذكر و التوجّه إلى اللّه، و سبب لرفعتهم و شرفهم، إلّا
أنّهم أعرضوا عن هذا المنار الذي يضيء لهم درب السعادة و الشرف.
و في المرحلة الخامسة تقول الآية: هل أنّ عذرهم في فرارهم من الحقّ هو أنّك
تريد منهم أجرا على دعوتك: أَمْ تَسْأَلُهُمْ
خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ[2].
فلو طلب قائد ديني أجرا من الناس مقابل و عظهم و دعوتهم إلى الحقّ لأعطى
المتعذّرين ذريعة للإعراض عنه و الطعن عليه، فيعرضون عنه بحجّة عدم قدرتهم
المالية، و يتّهمونه بأنّه ما دعاهم إلّا ابتغاء منافع خاصّة به.
مضافا إلى أنّ البشر ما يملك من شيء ليمنحه؟ أليس اللّه سبحانه و تعالى رزّاق
العباد؟
و القرآن الكريم بإيضاحه هذه المراحل الخمس برهن على أنّ هؤلاء الحمقى
(المشركين) لا يرضخون للحقّ، و أنّ أعذارهم في إنكار الحقّ أعذار واهية.
و جاءت الآية التالية باستنتاج عام لكلّ ما مضى: وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صراط مستقيم دلائله واضحة و استقامته معلومة، فالطريق
[1]- يمكن أن تفسّر عبارة «ذكرهم»
بمعنى تذكّرهم و توقظهم، و يمكن أن تفسر بمعنى شرفهم و حيثيّتهم في المجتمع
البشري، و في الوقت ذاته لا تناقض بين هذين المفهومين، و قد استفدنا من كليهما في
تفسير الآية.
[2]- الخرج و الخراج مشتق من الخروج،
و يعني الشيء الذي يستخرج من المال أو من حاصل الأرض الزراعية. إلّا أنّ الخرج ذو
معنى أوسع من الخراج. و كما يقول الراغب الاصفهاني في مفرداته: الخرج أعمّ من
الخراج، و جعل الخرج بإزاء الدخل، و قال تعالى: فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً و الخرج مختّص في الغالب بالضريبة على الأرض أو أجرتها.