ثمّ تعرف الآية التالية المتّقين بأنّهم الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ هُمْ مِنَ
السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ.
و لكلمة «الغيب» هنا تفسيران: الأوّل: إنّه إشارة إلى ذات اللّه المقدّسة، أي
مع أنّ اللّه سبحانه غائب عن الأنظار، فإنّ هؤلاء آمنوا به بدليل العقل، و يحسّون
بالمسؤولية أمام ذاته المقدّسة.
و الآخر: إنّ المتّقين لا يخافون اللّه في العلانية و بين المجتمع فقط، بل
يعلمون أنّه حاضر و ناظر إليهم حتّى في خلواتهم.
و ممّا يلفت النظر، أنّه عبّر عن الخوف أمام اللّه بالخشية، و في شأن القيامة
بالإشفاق، إنّ هذين اللفظين و إن كان كلاهما بمعنى الخوف، إلّا أنّ «الخشية»- على
قول الراغب في المفردات- تقال في موضع يمتزج فيه الخوف بالاحترام و التعظيم، كخوف
الابن من أبيه الموقّر، و بناء على هذا فإنّ خوف المتّقين ممتزج بالمعرفة.
و أمّا «الإشفاق» فيعني الاهتمام و الحبّ المقترن بالخوف، و هذا التعبير
يستعمل أحيانا في شأن الأولاد أو الأصدقاء الذين يحبّهم الإنسان، إلّا أنّه يخاف
عليهم في الوقت نفسه من تعرّضهم للبلايا و الأمراض مثلا. و في الواقع فإنّ
المتّقين يحبّون يوم القيامة، لأنّه مكان الثواب و الرحمة، إلّا أنّهم في الوقت
نفسه مشفقون من حساب اللّه فيه.
و يمكن أن تستعمل هاتان الكلمتان أيضا في معنى واحد.
و قارنت الآية الأخيرة بين القرآن و باقي الكتب السابقة: وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَ فَأَنْتُمْ لَهُ
مُنْكِرُونَ؟ و لماذا الإنكار؟ لأنّه ذكر لكم و مصدر وعيكم
و يقظتكم و تذكيرهم؟ أ لأنّه مصدر البركة و فيه خير الدنيا و خير الآخرة، و منبع
الانتصارات و السعادات؟ فهل ينكر مثل هذا الكتاب الذي يستبطن أدلّة أحقيّته