ثمّ أشارت الآية التالية إلى أحد علل تمرّد و عصيان الكافرين المهمّة، فتقول:
بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتَّى طالَ
عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ إلّا أنّ هذا العمر الطويل
و النعم الوفيرة بدل أن تحرّك فيهم حسّ الشكر و الحمد، و يطأطئوا رؤوسهم لعبودية
اللّه، فإنّها أصبحت سبب غرورهم و طغيانهم.
و لكن ألا يرى هؤلاء أنّ هذا العالم و نعمه زائلة؟ أَ فَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها
مِنْ أَطْرافِها؟ فإنّ الأقوام و القبائل تأتي الواحدة تلو
الاخرى و تذهب، و ليس للأفراد الصغار و الكبار عمر خالد، و الجميع سيصيبهم الفناء،
و الأقوام الذين كانوا أشدّ منهم و أقوى و أكثر تمرّدا و عصيانا أودعوا تحت
التراب، و في ظلام القبور، و حتّى العلماء و العظماء الذين كان بهم قوام الأرض قد
أغمضوا أعينهم و ودّعوا الدنيا! و مع هذا الحال أَ فَهُمُ الْغالِبُونَ؟
و قد اختلف المفسّرون في المراد من جملة أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها:
1- فقال بعضهم: إنّ المراد هو أنّ اللّه ينقص تدريجيّا من أراضي المشركين و
يضيفها على بلاد المسلمين. إلّا أنّه بملاحظة كون هذه السورة نزلت في مكّة، و لم
يكن للمسلمين تلك الفتوحات، فإنّ هذا التّفسير يبدو غير مناسب.
2- و قال بعض آخر: إنّ المقصود هو خراب و انهدام الأراضي بصورة تدريجيّة.
3- و بعض يعتبرونها إشارة إلى سكّان الأرض.
4- و ذكر بعض أنّ المراد من أطراف الأرض هو العلماء خاصّة.
إلّا أنّ الأنسب من كلّ ذلك، أنّ المراد من الأرض هو شعوب بلدان العالم
المختلفة، و الأقوام و الأفراد الذين يسيرون نحو ديار العدم بصورة تدريجيّة و
دائمة، و يودعون الحياة الدنيا، و بهذا فإنّه ينقص دائما من أطراف الأرض.