استدلّ بالقمر، ففيه دلالة جليلة يستعملها العامّة في معرفة الشهور، ولا يقوم عليه حساب السنة؛ لأنّ دوره لا يستوفي الأزمنة الأربعة ونشوء الثمار وتصرّمها، ولذلك صارت شهور القمر وسِنوه تتخلّف عن شهور الشمس وسِنيها، وصار الشهر من شهور القمر تنتقل، فتكون مرّة بالشتاء، ومرّة بالصيف.
فكِّر في إنارته في ظلمة الليل والإرب فيه لك [1]، فإنّه مع الحاجة إلى الظلمة لهدي الحيوان وبرد الهواء على النبات لم يكن صلاح في أن يكون الليل ظلمةً داجية لا ضياء فيها، فلا يمكن فيه شيء من العمل؛ لأنّه ربّما احتاج الناس على العمل بالليل لضيق الوقت عليهم في بعض الأعمال بالنهار، أو لشدّة الحرّ وإفراطه، فيعمل في ضوء القمر أعمالًا شتّى، كحرث الأرض، وضرب اللبن، وقطع الخشب، وما أشبه ذلك، فجعل ضوء القمر معونةً للناس على معائشهم إذا احتاجوا إلى ذلك وانساً للسائرين، وجعل طلوعه في بعض الليل دون بعض، ونقص مع ذلك من نور الشمس وضيائها لكيلا ينبسط الناس في العمل انبساطَهم بالنهار، ويمتنعون من الهدوء والقرار فيهلكهم في ذلك، وفي تصرّف القمر خاصّةً في مهلّه ومحاقه وزيادته ونقصانه وكسوفه من التنبيه على قدرة اللَّه خالقه المصرّف له هذا التصريفَ لصلاح العالم ما يعتبر به المعتبرون.
فكِّر يا مفضّل في النجوم واختلاف مسيرها؛ فبعضها لا تفارق مراكزها من الفلك ولا تسير إلّامجتمعة، وبعضها مطلقة ينتقل في البروج وتفترق في مسيرها، فكلّ واحد منها يسير سيرين مختلفين: أحدهما عامّ مع الفلك نحوَ المغرب، والآخر خاصّ لنفسه نحوَ المشرق، كالنملة تدور ذات الشمال، والنملة في تلك تتحرّك حركتين مختلفتين: إحداهما بنفسه، فتتوجّه أمامَها، والاخرى مستكرهة مع الرحى تجذبها إلى خلفها. فاسأل الزاعمين أنّ النجوم صارت على ما هي عليه بالإهمال من غير عمد ولا صانعَ لها: ما منعها أن يكون كلّها راتبةً، أو كلّها منتقلة، فإنّ الإهمال معنى واحد، فكيف صار يأتي بحركتين مختلفتين على وزن وتقدير؟ ففي هذا بيان أنّ مسير الفريقين على