قال: جئت لآنس بك، فقال اويس: ما كنت أرى
أنّ أحدا يعرف ربّه فيأنس بغيره و قال الفضيل إذا رأيت اللّيل مقبلا فرحت به و قلت
أخلو بربّي، و إذا رأيت الصّبح أدركنى استرجعت كراهة لقاء الناس و أن يجيئني من
يشغلني عن ربّي.
و قال بعض
الصّالحين: بينما أنا أسير في بعض بلاد الشّام إذ أنا بعابد خارج من بعض تلك
الجبال، فلمّا نظر إلىّ تنحى إلى أصل شجرة و تستّر بها، فقلت:
سبحان اللّه
تبخل علىّ بالنّظر إليك؟ فقال: يا هذا إنّي أقمت في هذا الجبل دهرا طويلا اعالج
قلبي في الصّبر عن الدّنيا و أهلها فطال في ذلك تعبى و فنى فيه عمرى، فسألت اللّه
تعالى أن لا يجعل حظّى من أيّامي في مجاهدة قلبى، فسكنه اللّه تعالى عن الاضطراب و
ألفه الوحدة و الانفراد، أنا نظرت إليك فخفت أن أقع في الأمر الأوّل، فاليك عنّى
فانّي أعوذ من شرّك بربّ العارفين و حبيب القانتين، ثمّ صاح و اغمّاه من طول المكث
في الدّنيا، ثمّ حوّل وجهه عنّى، ثمّ نفض يديه و قال: إليك عنّى يا دنيا لغيرى
فتزيّنى و أهلك فغرّى، ثمّ قال سبحان من أذاق قلوب العارفين من لذّة الخدمة و
حلاوة الانقطاع إليه ما ألهى قلوبهم عن ذكر الجنان و عن الحور الحسان، و جمع
همّتهم في ذكره فلا شيء ألذّ عندهم من مناجاته، ثمّ مضى و هو يقول: قدّوس قدّوس.
فاذا في
الخلوة انس بذكر اللّه و استكثار من معرفة اللّه، و في مثل ذلك قيل:
و إنّي لأستغشى و ما بي غشوة
لعلّ خيالا منك يلقى خياليا
و أخرج من بين الجلوس لعلّني
أحدّث عنك النفس بالسّر خاليا
قال بعض
الحكما: إنّما يستوحش الانسان من نفسه لخلوّ ذاته عن الفضيلة فيكثر حينئذ ملاقاة
النّاس و يطرد الوحشة عن نفسه بالكون معهم، فاذا كانت ذاته فاضلة طلب الوحدة
ليستعين بها على الفكرة و يستخرج العلم و الحكمة، و قد قيل: الاستيناس بالنّاس من
علامات الافلاس.
فقد وضح بذلك
كلّه أنّ التجرّد و العزلة في حقّ الخواصّ أفضل من المخالطة بالناس، لأنّ غاية
العبادات و ثمرة المعاملات أن يموت الانسان عارفا باللّه محبا له