الرّابع أنّهم لما كانوا فى مقام التّرقى
فى الكمالات و الصّعود على مدارج الترقيات فى كلّ آن من الآنات فى معرفة الرّب
تعالى و ما يتبعها من السعادات فاذا نظروا إلى معرفتهم السّابقة و عملهم معها،
اعترفوا بالتّقصير و تابوا منه، و يمكن أن ينزل عليه قول النبي 6: و إنى لأستغفر اللّه فى كلّ يوم سبعين مرّة.
الخامس أنّهم
: لما كانوا فى غاية المعرفة لمعبودهم فكلما أتوابه من الأعمال بغاية
جهدهم ثم نظروا إلى قصورها عن أن يليق بجناب ربهم، عدوا طاعاتهم من المعاصى، و
استغفروا منها كما يستغفر المذنب العاصى.
و من ذاق من
كأس المحبّة جرعة شائقة لا يأبى عن قبول تلك الوجوه الرائقة و العارف المحب الكامل
إذا نظر إلى غير محبوبه أو توجه إلى غير مطلوبه، يرى نفسه من أعظم الخاطئين، رزقنا
اللّه الوصول إلى درجات المحبين.
أقول: هذا ما
ذكره علماؤنا البارعون في التفصّي عن الاشكال المذكور، شكر اللّه سعيهم و أجزل
مساعيهم رضوان اللّه عليهم، إلّا أنّ لي فى المقام وجها آخر و هو بحسب الظاهر قريب
من بعض الوجوه السّابقة إلا أنّ نسبته إليها كنسبة الثّريا الى الثّرى كما هى غير
خفيّة على صاحب الذوق السّليم و الطبع المستقيم و هو أنّك قد عرفت في التذييل
الأوّل من تذييلات الفصل الثّامن من فصول هذه الخطبة، أنّ أوّل ما خلق اللّه
سبحانه أنوار النبىّ و آله :، كما عرفت أنّه سبحانه خلق تلك الأنوار
من قبل أن يخلق العالم بالوف من السّنين، و مرّ هناك فى حديث أبى الحسن البكري
أنّه سبحانه خلقها قبل إيجاد العالم بأربعة و عشرين و أربعمائة ألف عام إذا تذكرت
ذلك فنقول: إنّهم قد كانوا حينئذ أنوارا بسيطة و جواهر مجرّدة عن التّعلق بالأجسام
و الجسمانيّات، خالصة عن الكدورات، فارغة عن القيودات و العلاقات، مستغرقة فى تلك
المدّة المتطاولة فى شهود جمال الحقّ سبحانه و تعالى مشتغلة فى جميع هذه المدّة
بالتّسبيح و التّقديس و التنزيه، تارة فى حجاب القدرة