العالم الإنساني، فإن الواجب سبحانه لما ركب الإنسان بحكمته الحقة و مصلحته التامة من القوى الكثيرة المتضادة، فهي إذا تهايجت و تغالبت و لم يقهرها قاهر خير، حدثت فيه بهيجانها و اضطرابها أنواع الشر، و جذبه كل واحدة منها إلى ما يقتضيه و يشتهيه، كما هو الشأن في كل مركب. و قد شبه المعلم الأول مثله بمن يجذب من جهتين حتى ينقطع و ينشق بنصفين أو من جهات كثيرة فيتقطع بحسبها. فيجب على كل إنسان أن يجاهد حتى يغلب عقله الذي هو الحكم العدل و الخير المطلق على قواه المختلفة، ليرفع اختلافها و تجاذبها و يقيم الجميع على الصراط القويم.
ثم كل شخص ما لم يعدل قواه و صفاته لم يتمكن من إجراء أحكام العدالة بين شركائه في المنزل و البلد، إذ العاجز عن إصلاح نفسه كيف يقدر على إصلاح غيره، فإن السراج الذي لا يضيء قريبه كيف يضيء بعيده، فمن عدل قواه و صفاته أولا و اجتنب عن الإفراط و التفريط و استقر على جادة الوسط، كان مستعدا لسلوك هذه الطريقة بين أبناء نوعه، و هو خليفة اللّه في أرضه، و إذا كان مثله حاكما بين الناس و كان زمام مصالحهم في قبضة اقتداره لتنورت البلاد بأهلها، و صلحت أمور العباد بأسرها، و زاد الحرث و النسل و دامت بركات السماء و الأرض.
و غير خفي أن أشرف وجوه العدالات و أهمها و أفضل صنوف السياسات و أعمها هو عدالة السلطان، إذ غيرها من العدالات مرتبطة بها و لولاه لم يتمكن أحد من رعاية العدالة، كيف و تهذيب الأخلاق و تدبير المنزل يتوقف على فراغ البال و انتظام الأحوال، و مع جور السلطان أمواج الفتن متلاطمة، و أفواج المحن متراكمة، و عوائق الزمان متزاحمة، و بوائق [1] الحدثان
[1] البائقة: الداهية و الشر. يقال: رفعت عنك بائقة فلان أي غائلته و شره جمعه بوائق.