فإن آخر المعادن مربوط بأول النبات، و آخر
النبات مربوط بأول الحيوان، و آخر الحيوان مربوط بأول البشر، و آخر البشر مربوط
بأول مرتبة الملائكة، و ذلك إذا صفا. و إن هذه الدوائر فيها رتب متباينة مقسومة
على طبقات و منازل؛ و إنها تبتدئ كالنّقطة و تتسع حتى تسير حائطة بعضها ببعض، و إن
الباري سبحانه و تعالى جعل الموجودات كلها مشاكلة بعضها لبعض، و جعل قصد العالم
كله كقصد الفلك الذي يحويه و الدائرة التي تؤويه، كما قال تعالى:
«و كلّ في فلك يسبحون».
فصل
و اعلم أيها الأخ أن الباري سبحانه جعل شكل الفلك كريّا، لأن هذا
الشكل أفضل الأشكال الجسمية من المثلثات و المربعات و المخروطات و غير ذلك، و لكل
شكل من هذه الأشكال و مثل من هذه الأمثال أفعال تصدر عنها و أعمال تكمل منها.
فأما ما تختص بالشكل الفلكي و المثل الدّوريّ فهي أعظم الأشكال مساحة،
و أسرعها حركة، و أبعدها من الآفات و الأقطار المتساوية في الوسط.
و يمكنه أن يتحرك مستديرا و مستقيما، و لا يمكن أن يوجد ذلك في شيء
غيره، و لهذا اقتضت الحكمة الإلهية و العناية الربانية أن جعل شكل العالم مستديرا
كريّا، و الأفلاك و الكواكب كذلك، لما تبين من فضل هذا الشكل على الأشكال كلها. و
كل فلك يظهر فيه من أفعاله فيما دونه بحسب سعة دائرته و ضيق ما دونها عن الإحاطة،
فعند ذلك تظهر فيه أفعال المرتب فوقه، و في هذا الفعل سر يدل على حكمة المبدع
سبحانه، و معرفته، إذ هو محيط بما خلق، فاعل فيما اخترع، لا معقّب لحكمه و لا رادّ
لقضائه.