و اعلم أيها الأخ أن فعل الشكل المستدير يظهر فيما دونه أكثر و أظهر
من كونه فيما فوقه و ما هو أوسع منه، كما أن فعل المياه الحلوة إذا انصبّت إلى
البحار المالحة فإنها لا تؤثر فيها لقلتها و كثرة ماء البحار و اتساعها؛ و كذلك
ضوء الشمعة إذا وردت إلى بيت فيه سراج فإنه لا يتميز الضوء السراجي من الضوء
الشمعي لغلبته عليه، و كذلك ما هو أقوى و أبين من ضوء الشمعة إذا ورد عليها.
و على هذا القياس يكون فعل الشيء أبين و أقوى فيما دونه و ما هو
مرتّب تحته. و لما كان ذلك كذلك صارت النفس غير فاعلة في العقل فعلا يغطّي على
فعله و لا يظهر عليه، و صار العقل يفعل في النفس بالقوة و الفعل جميعا، لأنه
يعطيها صورة التمام و الكمال، ففعله إياها بالقوة كونها هيولانية موجودة في أول
وجوده و إبدائه إياها بالفعل إلى حيث تكون ذات الموجودات، فلذلك صارت أفعاله ظاهرة
فيها و دائرته محيطة بدائرتها. و كذلك فعل النفس في الطبيعة بيّن ظاهر، إذ كانت هي
المتممة لأفعال الطبيعة و المعطية لها الحسن و البهاء. فالعقل إذن من فعل اللّه
فهو المحيط به و بما دونه، الباهر بنوره أنوار مخلوقاته كلها، فهي منحصرة عن
إدراكه انحصار الوقوف عن الإحاطة به بحيث أوقفها، لا نفاذ لها من أمره و لا خروج
عن حكمه، كما قال جل اسمه: «و هو القاهر فوق عباده». و هو المرتّب لها مراتبها، و
معطيها صور البقاء و الكمال و التمام، سبحانه لا إله إلّا هو رب العرش العظيم و
الكرسي الذي وسع السماوات و الأرض.