من القاذورات باطنه، إن مات نتن، و إن لم
يدفن افتضح، و إن عاش فهو في العذاب و الشقاء.
أ ترى أن الفاعل لهذه الأفعال المحكمة، و الصائع المتفنّنة التي تظهر
على أيدي البشر، هو هذا الجسد وحده، و الناطق بهذه اللغات المتباينة و المتكلم
بهذه الأقاويل المختلفة و المخبر عن الأمور المنقضية مع الأزمان الماضية، و العالم
بالأشياء الموجودة في الأماكن الغائبة، و المنبئ عن الحوادث الكائنة في الأزمان
المستقبلة، و المستنبط غرائب العلوم من خواصّ جواهر العدد و أشكال الهندسة، و
تأليف اللحون، و تشريح الأجساد، و تركيب الأفلاك، و حساب حركات الكواكب، و صفات
البروج، و طبائع الأركان، و اختلاف جواهر المعادن، و منافع النبات، و اختلاف
الحيوان، هل هو هذا الجسد وحده. أو تنسب هذه العلوم و الأقاويل و الفضائل إلى مزاج
الجسد- كما زعم من لا خبرة له بحقائق الموجودات- و كيف تظهر هذه من مزاج الجسد و
المزاج عرض من الأعراض، و هو أحد هذه الأشياء التي ذكرناها؟ فقد بعد من الصواب من
قال هذا القول، و عمي عن معرفة حقائق الأشياء من اعتقد هذا الرأي، و أول غفلة دخلت
عليه جهالته بجوهر نفسه، و تركه طلب معرفة ذاته، و أعظم بليّة مع هذا أنه يدعي
الرئاسة في العلوم، و معرفة حقائق الأشياء، و صواب أقاويل أهل الأديان، و معرفة
صفات الباري، جلّ ثناؤه، الذي هو أشرف المعارف و أدق العلوم، و ألطف الأسرار، و هو
بجهل مع هذا كله ذاته، و لا يعرف حقيقة نفسه، فكيف يوثق برأيه، و كيف يصدّق قوله
فيما يدعيه من العلوم و يخبر عن الأمور الغائبة عن حواسّه و عقله؟
و إن كنت مقرّا، أيها الأخ البار الرّحيم، بأن مع هذا الجسد جوهرا
آخر هو أشرف منه، و أن هذه الأفعال و الأقاويل و العلوم و الفضائل إليه تنسب، و
منه تبدو، و هو المظهر من هذا الجسد هذه الأشياء، فقد قلت