و اعلم أيها الأخ البارّ الرّحيم، أيّدك اللّه و إيانا بروح منه، أنه
لا يحسن بنا أن ندّعي معرفة حقائق هذه الأشياء و نحن لا نعرف أنفسنا، لأن مثل من
يدّعي معرفة حقائق الأشياء و لا يعرف نفسه، كمثل من يطعم الناس و هو جائع، و كمن
يكسو غيره و هو عريان، و كمن يداوي الناس و هو عليل، و كمن يهدي الناس إلى الطريق
و هو لا يعرف طريق بيته، فقد علم أن الإنسان في مثل هذه الأشياء ينبغي له أن يبتدئ
أولا بنفسه ثم بغيره.
و اعلم أيها الأخ البارّ الرّحيم، أيدك اللّه و إيانا بروح منه، أن
كل واحد منا هو مركّب و مؤلف من جوهرين متباينين متضادين: أحدهما هو هذا الجسد
الغليظ المحسوس المؤلف من اللحم و الدم، و العظم و الجلد، و العصب و العروق، و ما
يشاكل ذلك، و هذه كلها أجسام أرضية ميتة مظلمة فاسدة.
و أما الجوهر الآخر فهو هذا الروح اللطيف، أعني النفس، فهي جوهرة
سمائية روحانية نورانية علّامة درّاكة صور الأشياء.
و اعلم أن هذا الجسد لهذه النفس في المثال بمنزلة دار تسكن، أو دابّة
تركب، أو آلة تستعمل، و ما دامت هذه النفس مع هذا الجسد مربوطة به إلى الوقت
المعلوم، فلا بد لنا من النظر فيما تصلح به معيشة الحياة الدنيا، و ما تنال به
النجاة و الفوز في الآخرة.
و اعلم أن هذين الأمرين لا يجتمعان و لا يتمّان إلّا بالمعاونة، و
المعاونة لا تكون إلّا بين اثنين أو أكثر من ذلك، و ليس شيء أبلغ على المعاونة من
أن تجتمع قوى الأجساد المتفرقة، و تصير قوة واحدة، و تتفق تدابير النفوس المؤتلفة
و تصير تدبيرا واحدا، حتى تكون كلّها كأنها جسد واحد و نفس واحدة، فعند ذلك تغلب
كل من رام غلبتها، و تقهر كل من خالفها و ضادّها.