عرفت منهم أحدا و آنست منهم رشدا عرّفنا
حاله و ما هو بسبيله من أمر دنياه و طلب معايشه و تصرّفه في حالاته لكي نعرف ذلك و
نعاونه على ما يليق به من المعاونة، فإن كان ممن يخدم السلاطين و يتصرّف في
أعمالهم، أوصينا إخواننا ممن يكون بحضرة السلاطين و الملوك بالنيابة عنه و النصيحة
له و حسن الرأي فيه لدى الملوك و السلاطين و الوزراء. و إن كان من أبناء التّنّاء
و الدهاقين و الأشراف و أرباب الضياع، أوصينا إخواننا ممن يتولى عمل السلطان
بصيانته و حسن معاونته في ملّته و كفّ الأذيّة عنه، و قبض أيدي الظالمين عن البسط
إليه. و إن كان من أبناء أصحاب النّعم و أرباب الأموال عاونّاه بحسب ذلك. و إن كان
من الفقراء المحتاجين واسيناه مما آتانا اللّه من فضله. و إن كان ممن يرغب في
العلم و الحكمة و الأدب و أمر الدين و طلب الآخرة، علّمناه مما علمنا اللّه، عز و
جل، و ألقينا إليه من حكمتنا و أطلعناه على أسرارنا بحسب ما يحتمل عقله و تتسع له
نفسه، و تتوق إليه همته إن شاء اللّه، عز و جل.
و اعلم، أيها الأخ البار الرّحيم، أنّا لا نكتم أسرارنا عن الناس
خوفا من سطوة الملوك ذوي السلطنة الأرضية، و لا حذرا من شغب جمهور العوامّ، و لكن
صيانة لمواهب اللّه عز و جل لنا كما أوصى المسيح فقال: «لا تضعوا الحكمة عند غير
أهلها فتظلموها و لا تمنعوها أهلها فتظلموهم».
و اعلم أيها الأخ أنّا لا نحسد ملوك الأرضين و لا نتنافس في مراتب
أبناء الدنيا، لكن نطلب الملك السماوي و مراتب الملائكة الذين هم أولو أجنحة مثنى
و ثلاث و رباع، لأن جوهرنا جوهر سماوي، و عالمنا عالم علويّ، و نحن هاهنا أسرى
غرباء في أسر الطبيعة، غرقى في بحر الهيولى بجناية كانت من أبينا آدم الأول حين
خدعه عدوه اللعين إذ قال: «هل أدلّك على شجرة الخلد و ملك لا يبلى» «فدلاهما بغرور
فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما» و قيل لهم: «اهبطوا بعضكم لبعض عدو» يعني
أنتما و ذريتكما «و لكم في الأرض