و قد قيل إن فيثاغورس سمع بصفاء جوهره و
ذكاء قلبه نغمات حركات الأفلاك، و أصوات حركات الكواكب، و استخرج بجودة فكره أصوات
نغمات الموسيقى و أوضاع ألحانها المطربة، و هو أول من تكلم في هذا العلم، و خبّر
عن هذا السر من الحكماء، ثم نيقوماخس و بطليموس و أقليدس و غيرهم من الحكماء
فصرّفوا في ذلك و أتقنوا كما ينبغي.
و قد ذكرنا في هذا المعنى و استقصينا البيان بإقامة الدلالة عليه في
رسالة الموسيقى، فقد بان بما ذكرنا و تحقق بما وصفنا أن السماوات عامرة بأهلها
مسكونة، و لسكانها أصوات و نغمات، و الأصوات و النغمات و الحركات، التي هي أعراض
تحدث من حركات الأجسام الحيوانية و غير الحيوانية، إنما تظهر و تبرز بحسب بروز تلك
الأصوات في ذلك العالم.
و هكذا أيضا تتبع هذه الحركات الجزئية تلك الحركات الكلية. و هذه
حركات ناقصة، و تلك حركات كاملة. و هذه حركات فانية، و تلك حركات باقية صالحة. و
تلك الحركات و الأصوات و النغمات كلها مفهومة، و هذه غير مفهومة، و تلك مستوية، و
هذه غير مستوية.
و العلّة في ذلك صفاء هيولى تلك، و كدر هيولى هذه. و هيولى هذه فانية
فاسدة، و تلك باقية صالحة. و تلك الحركات مكايل الدهور النفسانية، و هذه مكايل
الأوقات الزمانية. و هذه مركّبة، و تلك بسيطة. و هذه فيها اختلاف و تغيير، و تلك
لا اختلاف فيها و لا تغيير، و النغمات اللذيذة و الأصوات الطيبة في هذا العالم
قليلة الوجود، معدومة على الحال الأكثر، يتخصص بها الملوك و الكبار، و يتنافسون
فيها، و يكثر غير المخصوص بها لشرفها و جلالتها في النفوس. و لذلك صارت النفوس
الجزئية إذا سمعت نغمة طيبة و صوتا حسنا تنجذب إليه و تصبو نحوه، و تنصت إليه
أسماعها لقلته و كثرة أضداده من الأصوات المنكرة. و هكذا ميلها إلى الصورة الحسنة
و الأشخاص المليحة لقلتها و كثرة أضدادها، فلذلك صارت المستحسنات مرغوبا