و محلّ الأشباح التي فوق فلك الأفلاك التي
جواهرها أشرف و ألطف من جواهر عالم الأفلاك الذي هو عالم النفوس و دار الحيوان،
التي نعيمها كلّه روح و ريحان في درجات الجنان. و لذلك صارت النفوس الجزئية التي
في عالم الكون و الفساد، إذا سمعت الأصوات الطيبة و النغمات اللذيذة، مثل قراءة
الإنجيل، و تلاوة القرآن، و ألحان الداوديّة، و ألحان القرّاء في المجالس، تذكرت
رسوم الأفلاك، و محلّ السماوات، و تشوقت إلى ما هناك. و لذلك قالت الحكماء: إن
الموجودات و المعلومات هن التي تحاكي أحوال الموجودات الأولى التي هي علل لها. و
قولهم إن الأشخاص الفلكية علل و آلات لهذه الأشخاص التي في عالم الكون و الفساد، و
إن حركات تلك علة لحركات هذه، و حركات هذه تحاكي حركات تلك، فواجب أن تكون أصوات
هذه و نغماتها تحاكي ما هو علة لها، كمحاكاة الصبيان أصوات آبائهم و أمهاتهم و
حركاتهم في لعبهم، فإنهم يحاكون أفعال الآباء و الأمهات. و هكذا التلامذة يحاكون أفعال
الأستاذين. و أكثر العقلاء و العلماء من الناس يعلمون أن الأشخاص الفلكية و
حركاتها المنتظمة و أصواتها الموزونة على النّسبة الفاضلة، متقدّمة الوجود على
الحيوانات التي تحت فلك القمر، و حركاتها علة لحركات هذه؛ و أن عالم النفوس متقدّم
الوجود على عالم الأجسام كما بيّنّا في رسالة المبادي العقلية.
و لما وجد في عالم الكون و الفساد حركات و أجسام ذوات أصوات و
حيوانات ناطقة، دل على ذلك أن في عالم السماوات أشخاصا ناطقات و لطائف متحركة، و
أن لتلك الحركات نغمات متناسبات مفرّحة لنفوسها، و مشوّقة لها إلى فوقها، كما يوجد
في طباع الصبيان اشتياق إلى أحوال الآباء و الأمهات، و في طباع المتعلمين و
التلامذة اشتياق إلى أحوال الأستاذين، و في طباع الجنود و الخدم اشتياق إلى أحوال
الملوك و الرؤساء؛ و في طباع العقلاء و الفضلاء اشتياق إلى أحوال الملائكة و تشبّه
بهم، كما قيل في حد الفلسفة إنها تشبّه بالإله بحسب طاقة الإنسان.