رطب و لا يابس، بل هو صلب أشدّ صلابة من
الياقوت، و أشف من البلّور، و أصقل من المرآة، و أنه يماسّ بعضه بعضا، و يصطكّ و
يحتكّ و يطنّ كما يطنّ النّحاس، و يكون لنغماته و أصواته مناسبات مؤتلفة، و ألحان
موزونة كما بيّنّا في رسالة الموسيقى بأكثر من هذا البيان، و أقمنا عليه البرهان
من صناعة العود و ضرب الأوتار، و ما يستعمله أهل هذه الصناعة من النسبة. و هي أصحّ
نسبة تكون، و أفضلها، لأنها نسبة روحانية.
فصل
ثم اعلم أنه لو لم يكن لحركات أشخاص الأفلاك أصوات و نغمات، و لا
للملائكة كلام و لا تسبيح و لا تقديس، فليسوا هم إذا أحياء، فهم أموات، لأن الصمت
بالموتى أولى، و لربما احتك بعض الأحجار ببعض، فيحدث من بينهما قرع في الهواء. و
لو كان الفلك و من فيه بغير كلام و لا صوت و لا نطق، لكان ما يكون تحته مشاكلا له،
و كان من يكون ساكنا بغير حركة.
و لما كان هذا من الأصل في البداية، وجب أن يكون ما تحته مناسبا له
لكن هو الأعلى زيادة عليه، إذ كان هو الفاعل و هذا المنفعل، و أيّهما الأولى
بالنّطق و الحركة و الكلام و التسبيح و التكبير و التقديس و التهليل: أهل السماوات
و الأفلاك أم أهل الأرض من عالم الإنسان و الحيوان و الجمادات؟
و أيّهما أولى بالسّمع و الأبصار و الأذهان و الأفكار و الخواطر و
الأذكار و العلم و العقل: أهل السماوات أم أهل الأرض؟ فأهل السماوات هم المسبّحون
المستغفرون لمن في الأرض، لا يفترون عن التسبيح، و لا يسكتون عن التقديس بألحان
طيّبة و نغمات لذيذة ألذّ من نغمات العيدان، و نقر الأوتار و الطنابير، و مجاوبة
المزامير في الميادين الفسيحة و الأنبوبات القائمة. و إن تلك النغمات و الألحان
تذكّر تلك النفوس البسيطة التي هناك سرور عالم الأرواح