بالالتماس، و كيف لا يكون ذلك كذلك، و هو
السبب الذي لا تنقضي عجائب مادته و لا تفنى مواد كميته، فنقول:
اعلم يا أخي أن المعرفة لها و العلم بها درجة صعبة الارتقاء، و مسافة
بعيدة الانتهاء، و هي درجة العارفين و مقام المستبصرين الناظرين إلى آثارها،
العارفين بأخبارها من طريق العناية عن الحواس الحيوانية، و الطريق الجرمانية، إذ
كانت آثارها روحانيّة، و مواردها نفسانية، و عنها صدرت القوّة المتصلة بالحكماء، و
هي روح القدس النازلة على الأنبياء، :، بالوحي من السماء، و عليها
معوّل العلماء، و ربما وردت أشياء كثيرة الاختلاف، بعيدة الائتلاف، متباينة
القوانين، مختلفة الموازين.
و ذلك أن ما كان منها في هذا المكان الأرضي و المركز السّفلي تضعف
الحواسّ عن إدراك معرفتها، و تعجز المشاعر البشرية التي هي من أسباب الهيولى عن
بلوغ إدراكها. فإذا كانت الأشياء على هذا المثال منشؤها، و بهذا الترتيب مبدؤها، و
كانت القوة التي هي مادّة المعرفة بالحسّ في العالم الإنسي، و سبب القبول في الجسم
المجبول يعجزان عن البلوغ، و يضعفان عن الوصول، و كانت مدّة الزمانية التي هي سبب
الحياة الإنسانية، تقصّر عن الطلب، و تفنى قبل بلوغ الأرب، و تضيق عن الإحاطة بمعرفة
ذلك السبب؛ و إذا كان الأمر على ما وصفنا، كان أوّل ما قصده العاقل و توخّاه، و
اعتمد عليه الفاضل و تحرّاه، معرفة ما طاوعه عليه حسّه، و ساعده على قبوله جوهر
نفسه، و تلقاه أيام مدته، و أعمل فيه فكرته، زادت فيه بصيرته، فمن لا حسّ فيه لا
معرفة له، و من لا معرفة له لا جوهر له، و من لا جوهر له لا بلوغ له، و من لا بلوغ
له لا مقرّ له، و من لا مقرّ له لا وجود له، و من لا وجود له فهو العدم.