اعلم أيها الأخ الكريم البار الرحيم، أيدك اللّه و إيانا بروح منه،
أن العلم و الحكمة للنفس كتناول الطعام و الشراب للجسد. و ذلك أن الأجساد ترضع
أولا ثم تتناول الطعام و الشراب اللذين هما غذاء الأجساد، لينشو صغيرها، و ينمو
ناقصها، و يسمن مهزولها، و يقوى ضعيفها، و يكتسي رونقها و كمالها، و يبلغ إلى أقصى
مدى غاياتها و منتهى نهاياتها و محاسنها باللبن ثم بالطعام و الشراب اللذين هما
غذاؤها و مادتها. فهكذا أيضا حالات الأنفس مماثلة لحالات الأجساد بالطعام و الشراب
الذي هو غذاؤها و مادتها في تصاريفها لاقتران ما بينهما في كون الحياة.
و ذلك أن الأنفس الجزئية تتصور بالعلوم جواهرها، و تنمو بالحكمة
ذواتها، و تضيء بالمعارف صورها، و تقوى بالرياضيات فكرها، و تنير بالآداب
خواطرها، و تتسع لقبول الصور المجردة الروحانية عقولها، و تعلو إلى اشتياق الأمور
الخالدة همّتها، و يشتد على البلوغ إلى أقصى مدّ غاياتها عزماتها من الترقي في
المراتب العالية بالنظر في العلوم الإلهية، و السّلوك في المذاهب الروحانية
الربّانية، و التعبّد في الأمور الشريفة من الحكمة على المذهب السّقراطي، و
التصوّف و التزهّد و الترهّب على المنهج المسيحي، و التعلق بالدين الحنيفي، و هو
التشبه بجوهرها الكلي، و لحوقها بعالمها العلوي، و التوصل إلى علتها الأولى، و
الاعتصام بحبل عصمته، و ابتغاء مرضاته، و طلب الزّلفى لديه بالاتحاد بأبناء جنسها
في عالمها الروحاني و محلّها النوراني في دارها الحيواني كما قال اللّه تعالى: «وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ».
فإذا كانت الدار هي الحيوان، فما ظنّك يا أخي بأهل الدار كيف تكون
صفتهم و نعيمهم إلّا كما قال اللّه تعالى و تقدس:
«فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ