و أما من لا يعرف ما وصفنا له، لا يعقل ما
بيّن اللّه تعالى في كتابه على ألسنة أنبيائه إلّا هذه الدنيا التي كلّها آلام
جسدانية من الشهوات الجسمانية و اللذات الحيوانية، فهو لا يرغب إلّا فيها و لا
يتمنى إلّا الخلود معها، كما وصفهم اللّه تعالى فقال:
«يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَ ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ
الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ» فهؤلاء هم الكفار الذين تغطّى
عليهم الصفات الحقيقة و الأسرار الخفيّة التي كلها رموز أخرويّة ثابتة للنفوس
الناجية من نيران الهاوية. نجانا اللّه و إياك أيها الأخ، و رزقنا و إياك الدخول
في زمر الملائكة.
فصل فصل في كيفية وجدان اللذة و الآلام معا في وقت واحد
فنقول: اعلم أن الإنسان في دائم الأوقات لا يخلو من ألم و لذة
جسمانية و روحانية من عدّة وجوه. مثال ذلك العاشق يرى معشوقه و هو على خيانة،
فتسره رؤيته له و يلتذ بها، و تغمّه خيانته له و تؤلمه كما قال:
قايست
بين جماله و فعاله،
فإذا
الملاحة بالقباحة لا تفي
و كمثل من يأكل طعاما يشتهيه و له رائحة منكرة تؤذيه، مثل الصّحنى[1] و الماميامه[2]
لساكن السواحل، فهو يلتذ بأكله و تؤلمه رائحته. و مثل من يسمع لحنا طيبا و نغمة
لذيذة كغناء أبيات من الشعر فيها هجو له، فإنه يلتذ باستماع اللحن اللطيف، و يغمّه
هجوه في وقت واحد. و مثل من يسمع بموت مورث له تركته، فيغتم لخبر موته، و يسرّه ما
ورث. و مثل من به جرب مؤذ يحكّه، فيجد له لذّة و غمّا في وقت واحد، و ألمين
متضادّين و راحة بينهما.