و كمن هو يعمل عملا متعبا أو صناعة شاقة
يرجو عليها ثوابا جزيلا و أجرة وافرة، فهو يجد ألما من عمله المتعب، و لذة و فرحا
لما يرجو من ثوابه. و على هذا القياس حكم سائر الآلام و اللذات الجسمانية كما قال
القائل:
و
من نكد الأيام أن صروفها
إذا
سرّ منها جانب، ساء جانب
كمن سكن عنه وجع العين و ضرب ضرسه، فإنه يجد ألما و راحة في وقت
واحد. و كمن له خلق حسن و خلق سيّئ، فإنه يجد من أحدهما راحة و من الآخر ألما في
وقت واحد. و مثل من يرى صديقا قد غاب دهرا، و أخبر بسوء حاله، فيسره رؤيته و يغمه
سوء حاله. أو كمثل من يضع إحدى رجليه في ماء بارد، و الأخرى في ماء مغليّ، و إحدى
يديه في ماء فاتر، فإنه يجد لذة و ألما في حالة واحدة. و مثل من عمل عملا حسنا
يرجو جزاء عليه، و عملا سيئا يخاف عقوبة عليه، فيكون متألما ملتذّا في وقت واحد. و
على هذا المثال إذا اعتبر أحوال الناس، فلا يخلو من ألم يؤذيه و راحة من ألم قد
زال عنه، فيكون الإنسان الواحد في وقت واحد ملتذّا متألما، معاقبا مثابا.
و إنما ذكرنا هذه الإشارات و أوردنا هذه الأمثلة من أجل أن كثيرا ممن
يتكلم في علم النفس، و يبحث عن ماهيّة جوهرها، و كيفية تشخيصها، يرى و يعتقد أنها
أشخاص متباينة كثيرة. فأكثر ما يقوّي رأي من ظنّ أن النفس أشخاص كثيرة ما يظهر من
اختلاف أحوالها و أفعالها و أخلاقها و آرائها و أعمالها، و أن بعضها ملتذة و بعضها
متألمة، فحكم بهذا الاعتبار أنها أشخاص كثيرة منفصلة متباينة كتباين الأشخاص
الجسمانية المركّبة. ثم ناقض رأيه بقوله بأنها جواهر بسيطة، كأنه لا يدري ما معنى
البسيطة. و نحن قد أخبرنا بأنها نفس واحدة تجنّست أجناسها و تنوعت أنواعها، و قد تشخّصت
بحسب اختصاصها بالأجناس الجسمانية و أنواعها و أشخاصها، لأنها في ذاتها