فإذا فكّر العاقل اللبيب في حال النفوس
المتجسّدة و ما يلحقها من المحن و المصائب بتوسط هذه الأجساد، و ما يعرض لها من
الآلام و الأوجاع و المناحس كما بيّنّا قبل، و تفكر أيضا في حالات النفوس التي هي
أهل الجنة و عالم الأفلاك الذين هم سكان السماوات، إذا سمع بأنهم أحياء لا يموتون،
و شبان لا يهرمون، و أغنياء لا يفتقرون، و جيران لا يتحاسدون، و إخوان على سرر،
متقابلين متنعمين متلذذين، خالدون فيها، آمنون لا يخافون و لا يحزنون، فهم في روح
و ريحان و رضوان، رغبت نفسه إلى ما هناك، و زهدت في الكون هاهنا.
فكلما نظر بعين رأسه إلى جسده في عالم الكون و الفساد معذّبا من
أبناء جنسه، استعاذ بالله و سأله الخلاص و النجاة مما هو فيه من مشاركة أبناء
الدنيا؛ و كلما نظر بعين عقله إلى نفسه و أبناء جنسه في عالم الأفلاك، و ما هم فيه
من الرّوح و الريحان، تمنى الوصول إلى هناك، و سأل ربّه اللحاق بهم، كما سأل يوسف
الصّدّيق، 7، و كذلك إبراهيم، 7، و عند ذلك تصير الدنيا عليه
سجنا كما قال، عليه الصلاة و السلام: «الدنيا سجن المؤمن و جنّة الكافر.» و يكون
عند ذلك من أصحاب الأعراف الذين هم أهل المعارف، كما وصفهم اللّه تعالى: «وَ بَيْنَهُما حِجابٌ وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ
كُلًّا بِسِيماهُمْ وَ نادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ
يَدْخُلُوها وَ هُمْ يَطْمَعُونَ.» و إذا صرفت أبصارهم تلقاء «أَصْحابُ النَّارِ» يعني أهل الدنيا
التي في عالم الكون و الفساد: «قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا
مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ». و هؤلاء الرجال الذين على
الأعراف هم الذين مدحهم اللّه تعالى بقوله: «رِجالٌ لا
تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ
إِيتاءِ الزَّكاةِ» و قال:
«تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ» فهؤلاء هم أولياء
اللّه الذين هم يتمنون الموت لما قد تبين لهم ما بعد الموت من الوجود المحض و
البقاء الدائم و الرّوح و الرّيحان و النجاة من الآلام و الأوجاع و الأسقام التي
كلها جهنم و نيران.