و الأمور الجزئية تبتدئ من أنقص الحالات، ثم
ترتقي أولا فأولا إلى أن تنتهي إلى أفضل الحالات، كما بيّنّا في رسالة مسقط
النطفة، و رسالة نشوء الأنفس الجزئية، و رسالة البعث و القيامة، و رسالة الكون و
الفساد، فمن أراد علم ذلك، فليرجع إلى هناك ليعلم صحة ما قلناه و حقيقة ما
بيّنّاه.
فصل في ما العلة في وصول الآلام و الأوجاع إلى النفوس الحيوانية
دون سائر النفوس التي في العالم
فنقول: اعلم أنّا قد بيّنّا ماهيّة اللذة و الآلام، و كيفية إحساس
النفوس بهما، و نريد أن نذكر في هذا الفصل ما العلّة و الحكمة في رباط النفوس
الجزئية بالأجساد الحيوانية، و وصول الآلام و الأوجاع إلى النفوس الحيوانية دون
سائر النفوس النباتية و الموجودات التي في العالم.
فاعلم أنه لما كانت النفوس الحيوانية من الأمور الجزئية، و لم يكن
للنفوس الجزئية أن تبلغ إلى أتم الحالات و أكمل المراتب إلّا بأن تقترن بالأجسام
الجزئية التي هي أجساد الحيوان، و كانت الأجساد تعرض لها الآفات المفسدة قبل
تمامها و كمال نفوسها، و لم يكن للأجساد مقدرة على دفع تلك الأشياء المفسدة لها،
لأن جواهر الأجسام عاجزة، جاهلة، ميتة، ناقصة الحال، منفعلة حسب. فبواجب الحكمة
الإلهية جعل لنفوسها أن تلحقها الآلام و الأوجاع من الأشياء المفسدة لأجسادها،
كيما تدعوها تلك الآلام و تحثها تلك الأوجاع على دفع تلك الأشياء المفسدة
لأجسادها، و تحفظها من الآفات المهلكة، و تصونها عن عوارض التلف إلى أن تتمّ تلك
الأجساد و تكمل أيضا تلك النفوس. ثم يجيئها الموت الطبيعي، إن شاءت النفوس أو أبت،
كما يجيء الطّلق للولادة، إن شاء الجنين أو أبى، لأن موت الجسد ولادة