و أما الشهوات المركوزات في جبلة الحيوانات فقد ذكرنا طرفا من عللها
في رسالة الأخلاق، و لكن نذكر هاهنا ما لا بد من ذكره، و ذلك أن كل ما في كل طبيعة
جسد و جبلة كلّ مزاج من الشهوات المركوزة هي ما يوافق طباعها، و يصلح مزاجها، و
ذلك أن الحيوانات الآكلة اللّحمان لا تشتهي الحشائش إلا عند الضرورة و فقدان
اللحم، و كالطيور و الحيوان الآكل للعشب و الحبّ لا يشتهي اللحم و لا يلتذ به. و
هكذا الإنسان لا يشتهي و لا يأكل إلّا ما يوافق طبعه و مزاجه أو ما قد اعتاد أكله
على ممر الأيام و الأوقات.
و أما شهوة العليل لما يضره فلأسباب أخر يطول شرحها.
فقد تبين أن الجوع و العطش بحسب الحاجة إلى الطعام و الشراب، و أن
اللذة بحسب الكفاية، و الشهوة بحسب الموافقة للمزاج و الطبع، و نريد أن نذكر في
هذه الرسالة الملقّبة باللذة و الآلام كون العلة في كراهية نفوس الحيوانات الموت و
محبتها للحياة فنقول:
اعلم أن لمحبة الحيوانات الحياة و كراهيتها الموت علّتين: إحداهما ما
يلحق نفوسها من الأوجاع و الآلام. و الثانية ما في طباع الموجودات من محبة للبقاء
و كراهية للفناء هو من أجل أن الباري تعالى لما كان هو علّة الموجودات و سبب
الكائنات، كما بيّنّا في رسالة المبادي، و هو أبديّ الوجود، دائم البقاء، صارت من
أجل ذلك في جبلة الخليقة محبة البقاء و كراهية الفناء الذي هو ضد البقاء.
ثم اعلم أن الموجودات نوعان: كليات و جزئيات. فالكليات تبتدئ من
أتمّها ثم الأدون فالأدون إلى آخرها، و هي تسع مراتب: أولها و أولاها البارئ تعالى
الذي هو علّتها كلها، ثم العقل، ثم النفس، ثم الطبيعة، ثم الهيولى الأولى، ثم
الجسم المطلق، ثم الفلك، ثم الأركان الأربعة، ثم الموّلدات الثلاثة و هي آخرها،
كما بينّا في رسالة المبادي.