النفس، كما بيّنّا في رسالة حكمة الموت. و
لو لم تعرض للنفوس الآلام من الأشياء المفسدة لأجسادها، لتهاونت بها و تركتها
متعرّضة للآفات، و كانت تفسد أكثرها قبل تمامها و كمال نفوسها.
و ذلك أن النفس الإنسانية لم يكن نشوؤها و لا تتميمها و لا تكميلها
إلّا بتوسّط هذا الجسد المملوء من آثار الحكمة، كما بيّنّا في رسالة تركيب الجسد،
و رسالة الحاسّ و المحسوس، و قد بيّنّا ذلك في رسالة الإنسان عالم صغير.
فبواجب الحكمة الإلهية ربطت بالأجساد البشرية، و ذلك أن النفس
الإنسانية لا تعرف حقائق المحسوسات، و لا تتصور معاني المعقولات، و لا تقدر على
عمل الصنائع، و لا تتخلق بالأخلاق و الأعمال الحميدة إلا بتوسّط هذا الجسد طول
حياته إلى آخر العمر، كما قال تعالى: «وَ اللَّهُ
أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً» و قال: «وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ
اسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً.» فلو لم يعرض للنفس
الألم من الأشياء المفسدة للجسد، لكان الإنسان مثلا إذا نام فاستغرق في نومه، ثم
مد يده و رجله فدخلتا في نار إلى جنبه فاحترقتا، و لم يكن يحسّ به حتى ينتبه من
نومه، فإذا هو بلا يدين و لا رجلين، و كان يبقى طول عمره بلا آلة للمشي و لا أداة
لاتخاذ الصنائع. و على هذا القياس حكم نفوس سائر الحيوانات، لو لم يكن يعرض
لنفوسها الألم من الأشياء المفسدة لأجسادها، لتهاونت بها و تركتها متعرضة للآفات و
الهلاك، كما أنه لو لم يكن يجعل لها شفقة على صغار أولادها و تحنّنا عليها،
لتركتها و تهاونت بها، و لم تحتمل المشقة في تربيتها، و كانت تهلك كلّها قبل
التمام، و كان مصير ذلك سببا لانقطاع النسل و دثور الصورة من المادّة. و قيل لبعض
الحكماء:
أيّ أولادك أحب إليك؟ فقال: صغيرهم حتى يكبر، و عليهم حتى يبرأ، و
غائبهم حتى يرجع. فإذا بواجب الحكمة جعلت تحس ما يلحقها من الآلام لحفظ أجسادها من
التلف، و تحثّها على صيانتها من عوارض الآفات و الآلام.