الجسمانية إنما هي من خروج الألم، فهو خروج
من الاعتدال إلى أحد الطرفين إما إلى زيادة أو إلى نقصان، أو من حر إلى برد، أو من
برد إلى حر، أو من حركة إلى سكون، أو من سكون إلى حركة، أو من جوع و عطش، إلى شبع
و ريّ، أو من شبع و ريّ إلى جوع و عطش. و على هذا المثال و القياس يوجد حكم سائر
اللذات و الآلام الجسمانية. و ذلك أن الذي تجده النفس من اللذة بالنظر إلى محاسن
الموجودات، أو بالاستماع للنغمات، و الشم للروائح الطيبات، و اللمس للملموسات، فهي
كلها تكون بحسب مشاكلات المزاج الموافقات، و ألمها بحسب المخالفات المتضادّات، و
ذلك أن كل محسوس يخرج مزاج الحاسّ من الاعتدال، فإن الحاسّة تتألم منه و تكرهه؛ و
كل محسوس يردّ الحاسّ إلى الاعتدال و المزاج الطبيعي، فإن الحاسّة تلتذ به و تحبه
و تحنّ إليه.
فإذا تأملت يا أخي ما ذكرنا، علمت و تبين لك بأن هذه الآلام و اللذات
الجسمانية إنما جعلت لنفوس الحيوانات عند خروج مزاج أجسادها من الاعتدال و رجوعها
إلى الاعتدال، لكيما تدعوها تلك الآلام إلى حفظ أجسادها و صيانة هياكلها من الآفات
العارضة لها، و تحثّها تلك اللذات على طلب جرّ المنفعة إليها أو دفع المضرّة عنها،
إذ كانت الأجساد أجسادا أمواتا لا تقدر على دفع مضرّة عنها و لا جرّ منفعة إليها،
و لا تحترز من الأشياء المهلكة لها أو المخرجة لمزاجها من الاعتدال. و الدليل على
صحة ما قلنا و حقيقة ما وصفنا، أن الأجساد لا تقدر على دفع مضرّة و لا جر منفعة،
ما نرى من حالها عند مفارقة نفوسها مستسلمة إلى المهلكات مما لا خفاء به من حال
جثة الموتى.
فأما اللذات و الفرح و السرور الذي تجده عند وجدانها و منافعها و
محبوباتها، و ما تجده من الشفقة و التحنن على صغار نتاجها، و ما يعرض من الغم و
الهمّ عند فقدانها، أو ضرر ينالها، فكل ذلك حثّ للنفوس على صيانة الأجساد