لأنهم لما عرفوه حقّ معرفته، تركوا كل شيء
سواه، و اشتغلوا به و بذكره سرّا و إعلانا: «لا تُلْهِيهِمْ
تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ» فعند
ذلك اضمحلت الآراء الفاسدة عن ضمائرهم، و انحلت الاعتقادات الرديئة عن أفكار
نفوسهم، فوجدوا روحا و راحة و ريحانا و لذة يقصر الوصف عنه.
و إذ قد تبين في المباحث الحكميّة أن بعض اللذات إنما هو خروج من
الآلام، فاعلم أن اللّه تعالى جعل هذه اللذة و السرور بشرى لأوليائه في الحياة
الدنيا، فأما التي في الآخرة فهي عند اللّه خير و أبقى، كما قال تعالى: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ
لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ»
الآية. لا يشاركهم فيها غيرهم.
و اعلم أن علّة انحلال الآراء الفاسدة، و اضمحلالها عن قلوب أولياء
اللّه عند معرفتهم بربهم، هو من أجل أنهم اعتقدوها في طلب معرفته، فلما تبين لهم
الحق و عرفوا اللّه حقّ معرفته، انحلت و اضمحل ما كان منها فاسدا أو زورا أو
بهتانا؛ كما حكي عن إبراهيم 7، في أول مبدئه في طلب معرفة اللّه تعالى: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ»
إلى قوله: «وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ».
و هكذا كان بدء معرفة الأنبياء، :، بربهم في أول نظرهم و
علومهم بصفاته اللّائقة من الأولين و الآخرين من ذرية آدم و نوح و إبراهيم، و ممن
هداه اللّه و اجتباه كما قال تعالى: «وَ اللَّهُ
أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً» و قال: «وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ
تَعْلَمُوا» و قال لنبيه، 7: «ما كُنْتَ تَدْرِي
مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ.» و قال له: «قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» و
قال:
«أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ
نُوراً يَمْشِي» الآية. و قال: «هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ»
الآية. و قال: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ» الآية. و قال: «لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ»
يعني العلماء. و قال: «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبادِهِ الْعُلَماءُ.» و آيات كثيرة في مدح العلماء و حسن
الثناء عليهم، و ذمّ الجهّال.