و اعلم أن اللّه جعل في جبلة الإنسان و طبيعته الّا يأتمر أحد من
العقلاء لغيره، و لا يطيعه إلّا رغبة أو رهبة.
و اعلم أن المرغوب و المرهوب نوعان: عاجل حاضر، و آجل غائب. و العاجل
الحاضر هو ما تشاهده الحواس، و الآجل الغائب هو الذي لا تشاهده الحواس، و لكن قد
تصوّره الأوهام بالوصف و النعت. و اعلم أن الغائب الآجل لا تقع الرّغبة و الرهبة
إليه و منه إلّا بالوعد و الوعيد الصادق من العالم القادر، و كلما كان المرغوب
أشدّ عند الراغب و أقرب تحقيقا، كانت الرغبة إليه أو كد و أشدّ! و هكذا حكم
المرهوب منه. و قد رغّب اللّه تعالى خلقه من الجن و الإنس في نعيم الجنان و جعل
الوعد للمؤمنين، و رهّبهم أيضا من عذاب النيران، و جعل الوعيد أيضا للكافرين و
الأشرار، و جعل ميعادهم يوم يلقونه، إما في الدنيا قبل الممات، و إما في الآخرة
بعد الممات و الفراق. و بعث إليهم الرسل و الشّهداء و الأنبياء الصادقين، و أنزل
معهم الكتاب و الميزان ليقوم الناس بالقسط، و ذكر فيه الوعد و الوعيد، و ضمن و
أقسم و حلف كما قال اللّه تعالى: «فَبَعَثَ اللَّهُ
النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ» و
قال: «وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ» ثم أقسم تعالى و حلف على تحقيق وعده فقال:
«فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ
تَنْطِقُونَ» ثم قرّب فقال: «وَ ما أَمْرُ
السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ».
و لكن من أجل أن موعده غائب عن إدراك الحواس، صار أكثر الناس له
منكرين، و فيه شاكّين، و في ماهيّته و آنيّته، و متى وقته، متحيرين، كما أخبر عنهم
بقوله: «هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ» «لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ
وَ آباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ» و أما المؤمنون فهم مقرّون
بمواعيده، منتظرون لها، و لكن من الآراء الفاسدة و الاعتقادات الرديئة، ربما ترد على
قلوب المقرّين شكوك و حيرة