مرة ثانية خلقا جديدا، فيثيبهم و يجازيهم ما
كانوا يعملون في الدنيا من خير أو شرّ، أو عرف أو نكر، و هذا جيّد للعامة و لمن لا
يعرف من الأمور شيئا، و يرضى الدين تقليدا و إيمانا، و أما الخاصّ و من قد نظر في
بعض العلوم الرياضيّة و الطبيعية، فإن هذا الرأي لا يصلح لهم! و ذلك أن كثيرا من
العقلاء الحكماء ينكرون خراب السماوات، و يأبون ذلك إباء شديدا، و الجيّد لهم إذن
أن يعتقدوا أمر الآخرة أن لها وجودا متأخرا عن الكون في الدنيا، كما كان في الدنيا
موجودا متأخّرا عن الكون في الرّحم، و كما كانت أيام الشيخوخة متأخرة عن أيام
الشباب، و أيام العقل و التمييز و الحكمة و الكمال كانت متأخرة عن أحوال الجهل، و
هي أحوال تطرأ على النفس بعد مفارقتها الجسد إذا هي انتبهت من نوم غفلتها في
الدنيا، و استيقظت من رقدة جهالتها قبل الممات، و نظرت إلى الدنيا و اعتبرت
أحوالها و تصاريف أمورها، ليكون ذلك دلالة على معرفة الآخرة. فإذا لم تفعل و ماتت
ميتة جاهلية بعمائها، فتكون بعد بأمر الآخرة أعمى و أضلّ سبيلا.
و قد بيّنّا في رسالة الآلام و اللذات طرفا في كيفية ثواب المحسنين و
جزاء المسيئين بعد الممات، و طرفا آخر منها بيّنّاه في رسالة البعث و القيامة، و
نريد أن نذكر هاهنا طرفا آخر.
فصل في جزاء المحسنين
فنقول: اعلم يا أخي أن جزاء المحسنين يتفاضل في الآخرة بحسب درجاتهم
في المعارف و اجتهادهم في الأعمال الصالحة، و الناس متفاوتو الدرجات في أعمالهم،
كلّ على شاكلته، و أجود أحوال العامة و الجهّال كثرة الصوم و الصدقة و الصلاة و
القراءة و التسبيح، و ما شاكل ذلك من العبادات المفروضة و المسنونة في الشرائع،
المشغلة لهم عن فضول و بطالة، و ما لا ينبغي لهم كيلا يقعوا في الآفات.