و منهم من يرى و يعتقد أنه لا يكون كاذبا،
لأن الكذب هو الخبر بأنه قد فعل و لم يكن فعل، أو يقول: ما فعلت و قد كان فعل.
فأما إذا قال:
سأفعل ثم لم يفعل، فيكون مخالفا، و المخالف في الوعد يكون مذموما غير
وفيّ. فأما في الوعيد فربما كان الخلاف عفوا و صفحا و رحمة و تحنّنا و إشفاقا و
كرما و سماحة و إنعاما، و كذلك هذه الخصال ممدوحة محمودة تليق بفضل اللّه و رحمته
و كرمه و إحسانه. و منه قول بعض العرب:
و
إني إذا أوعدته أو وعدته،
لمخلف
إيعادي و منجز موعدي
فإن إخلاف الوعيد مكرمة افتخر بها، و ذلك أن وعيد اللّه تعالى لعبيده
مماثل لوعيد الأب الشفيق الطيب العالم للولد الجاهل العليل، يقول: لا تأكل و لا
تشرب كيت و كيت، و افعل كيت و كيت، فإنك إن لم تفعل و لم تقبل نصيحتي، ضربتك و
حبستك و عاقبتك. فإن لم يفعل الولد، و لم يقبل نصيحة والده، و لم يأتمر له، و لم
ينته عما نهاه عنه، و أكل و شرب ما نهاه عنه، و ترك ما كان مأمورا به، بقي عليلا
سقيما و فاتته الصحة و الأنفع و الأصلح، و بقي متألما وجيعا، فإن الأب الشفيق يشفق
عليه أن يفي بوعيده فيضربه و يزيده ألما و عذابا. فهكذا حكم عذاب اللّه و وعيده
لعباده، و هذا أليق به و برحمته وجوده و كرمه و إحسانه.
و أما وقت وفاء الوعد لثواب المحسنين متى يكون و كيف يكون؟ فإن هذه
المسائل هي من غوامض العلوم و دقائق الأسرار، و قد أكثر العلماء فيها القال و
القيل، و تحيرت فيها عقول كثير من الناس أولي الألباب، فمنهم من يرى و يعتقد أنها
في الدنيا قبل الممات. و منهم من يرى أنها تكون في الآخرة بعد الممات. و أما كثير
من الناس فينكرون أمر الآخرة فلا يعرفونها و لا يقرّون بها. و أما المقرّون بها
فمختلفون أيضا فيها و في ماهيّتها و كيفيّتها و أبنيتها على مذاهب شتى: فمنهم من
يرى و يعتقد أن الآخرة و دار الجزاء إنما تكون بعد خراب السماء و فناء الخلق
أجمعين، ثم إن اللّه تعالى يعيدهم