عن عيوب نفسه، لأن نفسه أحبّ الأشياء، و حب
الشيء يعمي و يصمّ».
ثم اعلم أن العلوم أجناس كثيرة، و لكل جنس أنواع متفننة، و كل نوع
منها بحرز آخر، و أهل كل علم متفاوتو الدرجات فيها: مبتدئ متعلم، و عالم راسخ، و
ما بينهما من الطبقات. و لأهل كل علم و مذهب أدلّة قد نصبها لهم الباري تعالى، فهم
يصيبون و يخطئون في أحكامهم و الاستدلال بها، فمقلّ و مكثر. كل ذلك بحسب قوى
نفوسهم، و طول دربتهم، و دقّة نظرهم فيها. و لا يظن أن الصناعة تبطل، أو تكون
الأدلّة غير صحيحة من أجل خطاياهم و زلتهم في الاستدلالات! فعلم النجوم و أدلّتها
صحيحة و حقّ، و هي الأشخاص الفلكية التي نصبها الباري تعالى، و أجراها مجاريها. و
إن كان المنجمون يخطئون في بعض استدلالاتهم أو في أكثرها، فلا تبطل صناعة علم
النجوم من أجل ذلك، و هو علم جعله اللّه تعالى معجزة لإدريس النبي، آمن به ملك
زمانه. و له قصة يطول شرحها. كذلك الطّبّ صناعة، فإن دلالته صحيحة، و قد يصيب
الأطباء و يخطئون في قضاياهم باستدلالاتهم التي نصبوها في أكثرها، فلا تبطل صناعة
الطب من أجل ذلك، و الأدلّة التي نصبها الباري سبحانه و تعالى هي اختلاف حركات
النّبض و أصباغ البول، و تغيّر أحوال المريض للعلل. و هكذا أيضا الفقهاء و الحكام
و المفتون في أحكام الدين من الحلال و الحرام قد يصيبون و يخطئون في قضاياهم و
استدلالاتهم التي نصبها لهم الباري من آيات كتبه المنزلة، و سنن أحكام الشريعة، و
مفروضات النواميس الإلهية، فخطؤهم و زللهم لا يبطل العلم و الصناعة و الأدلّة
المنصوبة، و لكن التقصير و العجز موكولان بالإنسان لنقصه عن التمام.
ثم اعلم أن مسألة الوعيد هي أيضا إحدى أمهات مسائل الخلاف بين
العلماء، و ذلك أن منهم من يرى و يعتقد أنه واجب في حكم اللّه و عدله أن يفي
بوعيده كما و في بوعده، لأنه إن لم يفعل كان كاذبا، تعالى اللّه عن ذلك علوّا
كبيرا.