«تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ
اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ». و قوله:
«بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى».
و قال: «و الآخرة خير لك من الأولى».
فصل في مسألة الجبر
فنقول: اعلم أن مسألة الجبر هي أيضا من إحدى مسائل الخلاف بين الناس،
المنبثّة منها الآراء و المذاهب: و ذلك أنه منذ كان العلماء و أهل الجدل هم فيها
مختلفون فيما مضى من الأزمان و الدهور، و هم طائفتان:
الجبريّة و القدريّة. فأما الجبريّة فإن الذي أدّاهم إلى ما يعتقدون
في هذه المسألة هو نظرهم و اعتبارهم عواقب الأمور و خواتيمها، و ذلك أنهم لما
تبيّن لهم أن الأمور كلها التي تخرج إلى الكون و الفساد و الوجود و العدم فعلى ما
في مقدور اللّه و سابق علمه، لا يكون خلاف ذلك شيء. و زعموا عند ذلك و ظنوا أنهم
لا يقدرون على شيء من الأفعال التي تظهر على أيديهم، و لا يستطيعون الامتناع عن
شيء من ذلك، و لا الترك لها بالحقيقة، و نسبوها كلّها إلى القضاء و القدر.
و أما خصماؤهم و مخالفوهم فكان نظرهم و اعتبارهم في هذه المسألة
الأوامر و النواهي و المدح و الذمّ و الوعد و الوعيد المتوجهة على الإنسان العاقل
المستطيع. و رأوا أنه محجوج بها، مزاح العلة فيها، و ليس له أن يحتج على أحد، لا
عند اللّه و لا عند الناس، بالقضاء و القدر، و علم اللّه السابق في الكائنات، لأنه
لا يدري أحد في مبدإ أمره و أول أفعاله قضاء اللّه و قدره و علمه السابق، و إنما تبيّن
له ذلك بعد فراغه مما قد فعل أو ترك ما أمر اللّه به. و هذا النظر نظر أولئك و
اعتبارهم، فلا جرم أن المسألة قائمة بحالها، و الخلاف باق، و الحكومة لم تنفصل إلى
يومنا هذا، بل كلما ازدادوا فيها نظرا و اعتبار و بحثا و جدالا، ازدادوا خلافا على
خلاف إلى يوم القيامة