صار يدعوهم اختلافهم في الآراء و المذاهب
إلى كشف عيوب بعضهم لبعض، و ذكر مساوىء بعضهم لبعض، و يكون ذلك تنبيها للجميع على
ترك الرذائل، و حثّا لهم على اكتساب الفضائل، و يكون في ذلك صلاح الكل إذا فعلوا
ما يؤمرون به، و تركوا ما يعابون عليه. و من أجل هذا قيل:
اختلاف العلماء رحمة.
و خصلة أخرى من فوائد العلماء في الاختلاف في أحكام الدين و شرائعه،
و فنون المذاهب، و هو أن لا يكون أمر الدين ضيّقا حرجا لا رخصة فيه و لا تأويل،
كما قال تعالى: «ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ». و قال 7: «أدرئوا الحدود بالشّبهات». فبهذا الوجه أيضا
اختلاف العلماء رحمة، و اختلاف أهل الديانات في أمر الدين و سنن أحكامه حكمة جليّة
لا يعرفها إلّا المحقّقون المستبصرون.
فصل في بيان أنه لا يمكن وصول الأنفس الجزئية إلى الآخرة إلا بعد
الورود إلى الدنيا
فنقول: اعلم، أيّدك اللّه، أن اللّه تعالى لما خلق الإنسان، و جعل
أقصى غرضه بلوغه إلى دار الآخرة، و كان لا يمكن أن يصل إلى هناك إلّا بعد أن يمكث
في الدنيا زمانا، كما لا يمكن أن يمكث في الدنيا على أتمّ الحالات إلّا بعد أن
يمكث في الرّحم زمانا، و لما كان الغرض من المكث في الرّحم هو تتميم بنيّة الجسد،
و تكميل الصورة، حتى إذا خرج إلى الدنيا من الرحم كاملا تامّا، انتفع في الحياة
الدنيا، و التمتّع بلذاتها و نعيمها، فلهذا كان الغرض من الكون في الدنيا و المكث
فيها زمانا ما هو تتميم صورة النفس و تكميل فضائلها، و لم تكن تتمّ فضائلها إلّا
بهذا الجسد المملوء من